وجدت في كتب الشرع أن العمال إن لم
يعطوا ما يكفيهم للحوائج فأخذوا من بيت المال أو ارتشوا أو أنفقوا شيئاً من الخراج يجوز
لأولي الأمر أن يأخذوهم بالمال أو بالحبس حسب ما اقتضاه الحال، وأما قطع اليد في ذلك
فلم يرد به الشرع، فقال السلطان: إني أمرت أن يعطي العمال ما يكفيهم موسعاً عليهم،
ولكنهم إذا خانوا في العمل أخذ منهم بالضرب والحبس والقيد، ولذلك ترى أن السرقة
والإرتشاء والخيانة قد فقدت في هذا العهد، ثم قال: الأموال التي غنمتها في ديوكير في أيام
الإمارة قبل أن أكون سلطاناً غنمتها بتحمل المحن والمشاق فهل هي لي خاصة لنفسي أو
لبيت مال المسلمين؟ فأجاب القاضي أن الأموال التي غنمتها في ديوكير في أيام الإمارة
غنمتها بعساكر المسلمين فهي لبيت مالهم، فلو كنت حصلتها بجهد نفسك على وجه يبيحه
الشرع كانت تلك الأموال خاصة لك، فلما سمع السلطان ذلك غضب عليه وقال: كيف
تقول؟ ألا يعلم رأسك ما تقول؟ الأموال التي أخذتها بجهد نفسي وقوة خاصتي من الخدم
وحصلتها من الكفار الذين لا يعلمهم أحد في دهلي وما أدخلتها في بيت المال كيف تكون
لبيت المال؟ ثم سأله أنه كم لي ولأهلي وعيالي نصيب من بيت المال؟ فقال القاضي:
إني أظن أن الموت قد دنا مني، فقال السلطان: لم تقول ذلك أيها القاضي؟ قال: لأن
السلطان سألني عن مسألة إن أجبت عنها بما يوافق الشرع يقتلني، وإن أجبت بما يوافق
هواه يدخلني الله في النار يوم القيامة، فقال السلطان: إني لست بقاتلك فقل ما بدا لك،
فقال: إن اقتدى السلطان بالخلفاء الراشدين وأراد رزق الآخرة فله أن يأخذ من بيت المال
ما وظفه الشرع للمجاهدين في سبيل الله، وهو أربع وثلاثون ومائتا تنكة لنفسه ولأهل بيته،
وإن قال السلطان إن هذا القدر لا يكفيه لعزة السلطنة فله أن يأخذ ما يعطي غيره من
الأمراء، وإن أراد أن يأخذ أكثر من ذلك بما أفتاه علماء السوء فله أن يأخذ أكثر من ذلك
كثرة يعيش بها أحسن مما يعيش الأمراء، وإياه وإياه أن يأخذ أكثر من ذلك، وأن يعطي
نساءه القناطير المقنطرة من الذهب والفضة من بيت المال وقرى كثيرة من أرض الخراج
والملابس الثمينة والظروف الغالية والجواهر الكريمة! فإنها تكون نكالاً ووبالاً لك في
الآخرة، فقال السلطان: ألا تخاف سيفي فتقول: إن ما نعطيه نساءنا حرام في الشرع؟
فقال: إني أخاف سيفك ولذلك أحسب عمامتي كفني، ولكن السلطان سألني عن المسائل
الشرعية فأجبت عنها بما علمته، فإن سألني عما تقتضيه المصالح الملوكية أجيب بأن ما
ينفقه السلطان على نسائه واحد من ألف، فقال السلطان: إنك حرمت على كل ما سألتك
عنه، فلعلك تحرم ما أفعله من التعزير والتشديد، فإني أمرت في شاربي الخمر وبايعيها
بالحبس في الآبار وبقطع أعضاء الزناة وبقتل النساء الزواني، وإني لا أميز الصالح من الطالح
في البغاة فأقتلهم وأهلك نساءهم وأبناءهم، ومن يخون في بيت المال أمرت فيه أن يحبس في
السجن ويوضع في الأغلال والقيود ويضرب ويطعن حتى يدفع ما عليه، فنهض القاضي من
المجلس وذهب إلى صف النعال ووضع جبينه على الأرض ونادى بأعلى صوته سواء قتلني
السلطان أو أبقاني لم يبح له الشرع ذلك ولم يطلق يده في أن يفعل بالمجرمين ما يشاء، فكظم
السلطان غيظه ودخل في الحرم ورجع القاضي إلى بيته، ثم ودع أهله وأقرباءه في الغد توديع
المحتضرين وتصدق واغتسل كغسل الميت وأتى قصر السلطنة ودخل على السلطان، فقربه
السلطان إلى نفسه وخلع عليه وكساه ووصله بألف تنكة وقال: إني لم أقرأ شيئاً من العلم
ولكني ولدت في بيت من بيوت المسلمين، وأخاف أن يخرجوا علينا فيقتل ألوف من
المسلمين، ولذلك أمرتهم بما فيه خيرهم وصلاحهم، فلما لم يفعلوا ما أمرتهم شددت عليهم
حسب ما اقتضته الحالة، ولا أعلم هل أجازه الشرع أم لا، ولا أعلم ما يفعل بي ربي يوم
القيامة ولكني أناجيه وأقول: أنت تعلم يا ربي أن أحداً إن زنى بحليلة غيره لم ينقص من
ملكي شيئاً، وإن شرب خمراً لم يضر بي، وإن سرق شيئاً لم يأخذ ما ترك لي أبواي، وإن
خان الأمانة لم يهمني، وإني أعزرهم بما ورد به الشرع، وقد تغير الناس عما كانوا عليه في
زمن النبوة، فلا أجد أحداً في مائة ألف أو خمسمائة ألف أو مائة ألف ألف من يكون له
خوف من الله سبحانه، ولذلك ترى كثيراً من الناس يقترفون الآثام ويجترؤن على الزنا
والخيانة والارتشاء مع ذلك التشديد والتعزير، انتهى.