للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

زوال البرد عنه، وحلول الدفء فيه، إذا لابد من فترة أخرى يصير فيها من الخوف إلى الأمن، ومن القلق إلى الطمأنينة حتى يرحل حين يرحل معتقدًا أن لن يفاجئه البرد في بعض الطريق بما عسى أن تشق عليه مقاومته والاحتماء منه. ورابعها أن رجلًا له مثل ما لأبي تمام من ألمعية خاطفة وذوق مرهف لا تبطئ به القراءة والاختيار ولا يكلفانه من الوقت والجهد مثل ما يكلفان سواه، وليس بعيدًا أن يكون أصحابه من آل سلمة في حرصهم عليه، وبرهم به، وملاطفتهم له، قد رفقوا به وقدروا حاله، فأمدوه ببعض الأعوان يكل إليهم من الأمراء ما يريد، وكان الفصل حينذاك فصل الشتاء حيث يطيب العمل، ولا يقل الانقطاع والعكوف عليه".

ونحن لا اعتراض لنا على هذه الأوجه سوى الوجه الثالث، ذلك لأن أبا تمام وإن عرف عنه أنه كان يكره الشتاء فإن كراهيته له لا تمنعه من السفر فيه، وهو حين غادر خراسان إلى همذان إنما غادرها في وقت الشتاء، فلو أنه كان يكره السفر في الشتاء لما غادر خراسان، وإذا قلنا إنه غادر خراسان مضطرًا إذ لم تكن له حاجة في البقاء طويلًا بها، فكيف نفسر أنه اغتم من نزول الثلج بهمذان لأنه سوف يمنعه السفر إلى العراق، مع علمنا بالحفاوة التي وجدها عن آل سلمة، وكانت هذه الحفاوة حافزًا لأن ينوي السفر فيه. هذا من جهة، ومن جهة أخرى إننا نسلم بأن أبا تمام كان يتمتع بالألمعية الخاطفة التي تعينه على سرعة الاختيار، ولكن إن صح هذا بالنسبة للحماسة والوحشيات واختيار الفحول، لما ذكرناه من سعته في الحفظ التي تعينه على سرعة الاختيار فلا شك في أن اختيار القبائلي الأكبر الذي ذكر الآمدي انه اختار فيه من كل قبيلة قصيدة، والاختيار القبائلي الذي اختار فيه قطعًا من محاسن أشعار القبائل يقتضي جهدًا أكبر وزمنًا أطول في الوقوف على جل شعر القبائل إن لم يكن كله، حتى لا يداخل اختياره في الكتابين فوات من الجيد الذي يختاره. ومن هنا كان ترجيحنا للرواية القائلة بأنه صنع في همذان ثلاثة كتب هي في رأينا: الحماسة والوحشيات واختيار شعراء الفحول، لأن هذه الاختيارات الثلاثة ال تقتضي الوقوف على جل ما قاله الشعراء من شعر، فنحن نذهب بعيدًا إذا قلنا إن

<<  <   >  >>