بلغت المنبر، وأنا لعظيم الحياء، لا أعلم في أي بقعة أنا، والجامع غاصٌّ بأهله، وأسال الحياء بدني عرقاً، وأقبل الشيخ على الخلق، فقال لهم: أنا معلمكم، وهذا معلمي، لمَّا كان بالأمس؛ قلتُ لكم كذا وكذا، فما كان أحدٌ منكم فقه عني ولا ردَّ عليَّ، فاتبعني إلى منزلي، وقال لي كذا، وأعاد ما جرى بيني وبينه، وأنا تائب من قولي بالأمس، راجع عنه إلى الحق، فمَن سمعه ممَّن حضر؛ فلا يعود إليه، ومَن غاب؛ فليبلغه مَن حضر، فجزاه الله خيراً، وجعل يحتفل لي في الدعاء والخلق يؤمِّنون.
فانظروا رحمكم الله إلى هذا الدين المتين، والاعتراف بالعلم لأهله على رؤوس الملأ، من رجل ظهرت رياسته واشتهرت نفاسته، لغريب مجهول العين، لا يعرف مَن هو ولا من أين، واقتدوا به؛ ترشدوا» انتهى.
قلت: ما أعظم الفرق بين ما فعله أبو الفضل الجوهري مع الرجل الذي نبَّهه على خطئه وبين أفعال بعض المنتسبين إلى العلم في زماننا؛ فإن بعضهم إذا نبَّهه بعض العلماء على خطئه؛ اشمأزَّ، وتحامل على الذي نبهه، ورماه بالجهل والتعصب وغير ذلك مما يرى أنه يشينه، ولا شكَّ أنَّ هذا من الكبر الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم:«الكبر: بطر الحق، وغمط الناس».
«بطر الحق»: رده، و «غمط الناس»: احتقارهم.
ومن أعظم ما يُبْتَلى به المرء: إعجابه بنفسه، وترفُّعه على أقرانه وبني جنسه.
وقد ذكر ابن عبد البر عن ابن عبدوس: أنه قال: «كلَّما توقَّر العالم، وارتفع؛ كان العجب إليه أسرع؛ إلا مَن عصمه الله بتوفيقه، وطرح حب الرياسة عن نفسه».