للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

الوحشى من الكلام يفهمه الوحشى من الناس كما يفهم السوقى رطانة السوقى. (١)

لقد اهتم الجاحظ بالألفاظ اهتماما عظيما أولاها عناية كبيرة، وقد دفعه هذا الاهتمام إلى أن يقول: «والمعانى مطروحة فى الطريق يعرفها العجمى والعربى والبدوى والقروى والمدنى، وإنما الشأن فى إقامة الوزن، وتخير

اللفظ وسهولة المخرج، وكثرة الماء، وفى صحة الطبع وجودة السبك، فانما الشعر صناعة وضرب من النسج، وجنس من التصوير» (٢).

وظن بعض الباحثين أنّه يميل إلى اللفظ كل الميل، وأنّه لا يرى للمعنى كبير أهمية، والواقع أنّه عنى باللفظ وأعطاه نصيبه من الاهتمام، وشغل بالمعنى والتصوير الأدبى الذى يقول عنه: «فانما الشعر صناعة، وضرب من النسج، وجنس من التصوير»، وهذه نظريته التى شرحها عبد القاهر الجرجانى وسماها «نظرية النظم»، فالجاحظ اهتم بالألفاظ والمعانى والتصوير مع أنّه يروى أنّ بعضهم لا يحفل إلّا بالمعنى وحده كأبى عمرو الشيبانى الذى يرى أنّ المعنى متى كان رائعا حسنا ظل كذلك فى أية عبارة وضع. فالبيتان:

لا تحسبنّ الموت موت البلى ... فانما الموت سؤال الرجال

كلاهما موت ولكنّ ذا ... أفظع من ذاك لذل السؤال

استحسنهما أبو عمرو على حين ليست عليهما مسحة من جمال سوى الوزن.

وعابه الجاحظ ورأى أنّه مسرف فى تقديرهما، وقال: «وأنا رأيت أبا عمرو الشيبانى وقد بلغ من استجادته لهذين البيتين ونحن فى المسجد يوم الجمعة أن كلّف رجلا حتى أحضره دواة وقرطاسا حتى كتبهما له، وأنا أزعم أنّ صاحب هذين البيتين لا يقول شعرا أبدا، ولولا أن أدخل فى الحكم بعض الفتك لزعمت أنّ ابنه لا يقول شعرا أبدا» (٣).


(١) ينظر البيان، ج ١ ص ١٤٤.
(٢) الحيوان، ج ٣ ص ١٣١.
(٣) الحيوان، ج ٣ ص ١٣١.

<<  <   >  >>