عَلَّمَ الْقُرْآنَ* خَلَقَ الْإِنْسانَ عَلَّمَهُ الْبَيانَ فله الحمد أن علم، والشكر على ما أنعم، ومنه الصلاة والتسليم، على نبيه الرءوف الرحيم، الذي جاء بتوحيد اللغة والدين، وجعل الكتاب والحكمة في الأميين، فكانوا بذلك أئمة وكانوا هم الوارثين.
الإنسان يمتاز بالعلم، وإنما العلم بالتعلم، والتعلم باللغة، واللغات تتفاضل في حقيقتها وجوهرها بالبيان، وهو تأدية المعاني التي تقوم بالنفس تامة على وجه يكون أقرب إلى القبول وأدعى إلى التأثير. وفي صورتها وأجراس كلمها بعذوبة النطق، وسهولة اللفظ والإلقاء، والخفة على السمع. وإن للغة العربية من هذه المميزات الميزان الراجح، والجواد القارح، يعرف ذلك من أخذها بحق، وجرى فيها على عرق، فكان من مفرداتها على علم، وضرب في أساليبها بسهم. ومن آية ذلك لعير العارف، أن أولئك الشراذم والأوزاع من أهلها قد حملوها إلى الأمم التي كان للغاتها في العلوم قدم، ولم يحملوهم عليها بالإلزام، ولا بالتعليم العام. وكان من أمرها مع هذا أن نسخت بطبيعتها لغة المصريين من مصرهم، والرومانيين من شامهم، واستعلت على الفارسية العذبة في مهدها وموطنها، وامتد شعاعها إلى الأندلس في غربي أوربة.
بعد ما طاف ساحل إفريقيا الشمالي، وإلى جدار الصين من الشرق- كل ذلك في زمن قريب لم يعرف في التاريخ مثله للغة أخرى من لغات الفاتحين الذين يتخذون كل الوسائل لنشر لغاتهم، وتعميمها بالتعليم العام، وضرب الترغيب والترهيب.
كانت لغة أميين وثنيين جاهليين، فظهر فيها أكمل الأديان، فكانت له أكمل مظهر، وتجلى لها العلم فكانت له خير مجلى. وصارت بذلك لغة الدين والشريعة، وعلوم العقل والطبيعة، ولكن عدت على أهلها عواد كونية، وطرأت عليهم أمراض اجتماعية، فضعف فيهم كل مقوم من مقومات الأمم الحية. ومن تلك المقومات الحقيقية اللغة فقد فسدت ملكتها في الألسنة، والتوى طريق تعليمها في المدارس، حتى كادت تكون من اللغات الدوارس.