الحمد لله الذي شرفنا بعد أخذ آيات القرآن، بتعلم علوم البلاغة والبيان؛ فلا جرم أنها تقع من سائر العلوم اللغوية بمنزلة الرأس من الجسد، فهي باسمى منزلة، وأعلى مكان، وذلك لتعلقها ببيان أسرار الكتاب المجيد، ومن ثم بيان مقصود الله ومراده من العبيد.
وبعد؛ فإن كتاب (أسرار البلاغة) يعد وهو وكتاب (دلائل الإعجاز) لشيخ البلاغيين- بلا منازع- الإمام عبد القاهر الجرجاني، يعدان بالمقام الأول من كتب البلاغة بلا نزاع بين أهل العلم بهذا الفن، ولم أر في كلام أحد من
المتقدمين أو المتأخرين من يقدم عليهما كتابا في هذا الفن؛ بل إنك إذا سألت أحدا عن كتاب جيد يحفظ للبلاغة رونقها وطلاوتها غير هذين الكتابين فإنه يقف باهتا متحيرا فلا يعيرك جوابا، غير النفي القاطع، فإن سألته عن أجود الكتب بعدهما، فإنه يتردد ويتلعثم من جهة عظم الهوّة وعظم الفارق والبون، بين هذين الكتابين وما يجعل تاليا لهما وما ذلك إلا لأن كتب المتقدمين قبل عبد القاهر كانت عبارة عن مباحث متفرقة، وإشارات خاطفة، وعبارات متناثرة، تكد في جمعها من هنا وهناك، فجاء ذلك الإمام فجمع أصول هذا العلم، وردّ إليها فروعه، ووضع له قواعده وأصوله، بغير جفاف ولا تعقيد، وبغير مبالغة في الحصر والإحصاء والتفريع والتمييز، والتحديد، مما عرف عن المتأخرين كالسكاكي ومن تابعه من صرامة المنطق والمبالغة في التحديد والتجريد.
فكانت طريقته قصدا بين الطريقة الأدبية القديمة في تحليل النصوص وترك الأمور هملا دون تقييد ولا تعقيد ولا تجريد لقواعد العلم وأصوله، وبين طريقة المتأخرين الذين غلب عليهم جفاف المنطق وصرامته، وشدة التجريد والتعقيد وقوته. ويأتي هذا الكتاب الجليل (أسرار البلاغة) ليفرده الشيخ لمعالجة أكثر