يدركه الحسّ، وبين التمثيل الذي هو تشبيه من طريق العقل والمقاييس التي تجمع بين الشيئين في حكم تقتضيه الصّفة المحسوسة لا في نفس الصفة كما بيّنت لك في أول قول ابتدأته في الفرق بين التشبيه الصريح وبين التمثيل، من أنك تشبّه اللّفظ بالعسل على أنك تجمع بينهما في حكم توجبه الحلاوة دون الحلاوة نفسها.
فهاهنا لطيفة أخرى تعطيك للتمثيل مثلا من طريق المشاهدة، وذلك أنك بالتمثيل في حكم من يرى صورة واحدة، إلّا أنه يراها تارة في المرآة، وتارة على ظاهر الأمر، وأما في التشبيه الصريح، فإنك ترى صورتين على الحقيقة.
يبيّن ذلك: أنّا لو فرضنا أن تزول عن أوهامنا ونفوسنا صور الأجسام من القرب والبعد وغيرهما من الأوصاف الخاصة بالأشياء المحسوسة، لم يمكنّا تخيّل شيء من تلك الأوصاف في الأشياء المعقولة. فلا يتصوّر معنى كون الرجل بعيدا من حيث العزّة والسلطان، قريبا من حيث الجود والإحسان، حتى يخطر ببالك وتطمح بفكرك إلى صورة البدر وبعد جرمه عنك، وقرب نوره منك. وليس كذلك الحال في الشيئين يشبه أحدهما الآخر من جهة اللون والصورة والقدر، فإنك لا تفتقر في معرفة كون النّرجس وخرطه واستدارته وتوسّط أحمره لأبيضه إلى تشبيهه بمداهن درّ حشوهنّ عقيق، كيف؟ وهو شيء تعرضه عليك العين، وتضعه في قلبك المشاهدة، وإنما يزيدك التشبيه صورة ثانية مثل هذه التي معك، ويجتلبها لك من مكان بعيد حتى تراهما معا وتجدهما جميعا. وأما في الأول، فإنك لا تجد في الفرع نفس ما في الأصل من الصفة وجنسه وحقيقته، ولا يحضرك التمثيل أوصاف الأصل على التعيين والتحقيق، وإنما يخيّل إليك أنه يحضرك ذلك، فإنه يعطيك من الممدوح بدرا ثانيا، فصار وزان ذلك وزان أن المرآة تخيّل إليك أنّ فيها شخصا ثانيا صورته صورة ما هي مقابلة له، ومتى ارتفعت المقابلة، ذهب عنك ما كنت تتخيّله، فلا تجد إلى وجوده سبيلا، ولا تستطيع له تحصيلا، لا جملة ولا تفصيلا.
[فصل في الفرق بين الاستعارة والتمثيل]
اعلم أن من المقاصد التي تقع العناية بها أن نبيّن حال «الاستعارة» مع «التمثيل»، أهي هو على الإطلاق حتى لا فرق بين العبارتين، أم حدّها غير حدّه إلا أنها تتضمّنه وتتّصل به؟ فيجب أن نفرد جملة من القول في حالها مع التّمثيل.