المراتب في ذلك أعطيته في بعض منزلة الحاذق الصّنع، والملهم المؤيّد، والألمعي المحدّث، الذي سبق إلى اختراع نوع من الصنعة حتى يصير إماما، ويكون من بعده تبعا له وعيالا عليه وحتى تعرف تلك الصّنعة بالنسبة إليه، فيقال:«صنعة فلان»، و «عمل فلان» ووضعته في بعض موضع المتعلّم الذكيّ، والمقتدي المصيب في اقتدائه، الذي يحسن التشبّه بمن أخذ عنه، ويجيد حكاية العمل الذي استفاد، ويجتهد أن يزداد.
واعلم أني لست أقول لك إنك متى ألّفت الشيء ببعيد عنه في الجنس على الجملة فقد أصبت وأحسنت، ولكن أقوله بعد تقييد وبعد شرط، وهو أن تصيب بين المختلفين في الجنس وفي ظاهر الأمر شبها صحيحا معقولا، وتجد للملاءمة والتأليف السويّ بينهما مذهبا وإليهما سبيلا وحتى يكون ائتلافهما الذي يوجب تشبيهك، من حيث
العقل والحدس، في وضوح اختلافهما من حيث العين والحسّ، فأمّا أن تستكره الوصف وتروم أن تصوّره حيث لا يتصوّر، فلا لأنك تكون في ذلك بمنزلة الصّانع الأخرق، يضع في تأليفه وصوغه الشكل بين شكلين لا يلائمانه ولا يقبلانه، حتى تخرج الصورة مضطربة، وتجيء فيها نتوّ، ويكون للعين عنها من تفاوتها نبوّ. وإنما قيل: «شبّهت، ولا تعني في كونك مشبّها أن تذكر حرف التشبيه أو تستعير، إنما تكون مشبّها بالحقيقة بأن ترى الشّبه وتبيّنه، ولا يمكنك بيان ما لا يكون، وتمثيل ما لا تتمثّله الأوهام والظنون.
ولم أرد بقولي إنّ الحذق في إيجاد الائتلاف بين المختلفات في الأجناس، أنك تقدر أن تحدث هناك مشابهة ليس لها أصل في العقل، وإنما المعنى أنّ هناك مشابهات خفيّة يدقّ المسلك إليها، فإذا تغلغل فكرك فأدركها فقد استحققت الفضل. ولذلك يشبّه المدقّق في المعاني بالغائص على الدرّ، ووزان ذلك أن القطع التي يجيء من مجموعها صورة الشّنف والخاتم أو غيرهما من الصور المركّبة من أجزاء مختلفة الشكل، لو لم يكن بينها تناسب، أمكن ذلك التناسب أن يلائم بينها الملائمة المخصوصة، ويوصل الوصل الخاصّ، لم يكن ليحصل لك من تأليفها الصورة المقصودة. ألا ترى أنّك لو جئت بأجزاء مخالفة لها في الشكل، ثم أردتها على أن تصير إلى الصورة التي كانت من تلك الأولى، طلبت ما يستحيل؟ فإنما استحققت الأجرة على الغوص وإخراج الدّر، لا أن الدرّ كان بك، واكتسى شرفه من جهتك، ولكن لمّا كان الوصول إليه صعبا وطلبه عسيرا، ثم رزقت ذلك، وجب أن يجزل لك، ويكبّر صنيعك.