وذلك أن تشبيه السّنن بالنجوم، تمثيل، والشبه عقليّ، وكذلك تشبيه خلافها من البدعة والضلالة بالظّلمة. ثم إنه عكس فشبّه النجم بالسّنن، كما يفعل فيما مضى من المشاهدات، إلا أنّا نعلم أنه لا يجري مجرى قولنا:«كأن النجوم مصابيح» تارة «وكأن المصابيح نجوم» أخرى، ولا مجرى قولك:«كأنّ السيوف بروق تنعقّ»، و «كأنّ البروق سيوف تسلّ من أغمادها فتبرق»، ونظائر ذلك مما مضى. وذلك أن الوصف هناك لا يختلف من حيث الجنس والحقيقة، وتجده العين في الموضعين، وليس هو في هذا مشاهدا محسوسا، وفي الآخر معقولا متصوّرا بالقلب ممتنعا فيه الإحساس. فأنت تجد في السيوف لمعانا على هيئة مخصوصة من الاستطالة وسرعة الحركة، تجده بعينه أو قريبا منه في البروق، وكذلك تجد في المداهن من الدرّ حشوهن عقيق، من الشكل واللون والصورة ما تجده في النرجس، حتى يتصوّر أن يشتبه الحال في الشيء من ذلك، فيظنّ أن أحدهما الآخر: فلو أن رجلا رأى من بعيد بريق سيوف تنتضى من الغمود، لم يبعد أن يغلط فيحسب أن بروقا انعقّت، وما لم يقع فيه الغلط كان حاله قريبا مما يجوز وقوع الغلط فيه. ومحال أن يكون الأمر كذلك في التمثيل، لأن «السنن» ليست بشيء يتراءى في العين فيشتبه بالنجوم، ولا هاهنا وصف من الأوصاف المشاهدة يجمع السنن والنجوم، وإنّما يقصد بالتشبيه في هذا الضرب ما تقدّم من الأحكام المتأوّلة من طريق المقتضى. فلمّا كانت «الضلالة والبدعة» وكل ما هو جهل، تجعل صاحبها في حكم من يمشي في الظّلمة فلا يهتدي إلى الطريق، ولا يفصل الشيء من غيره حتى يتردّى في مهواة، ويعثر على عدوّ قاتل وآفة مهلكة، لزم من ذلك أن تشبّه بالظلمة، ولزم على عكس ذلك أن تشبّه «السّنّة والهدى والشريعة وكلّ ما هو علم» بالنّور.
وإذا كان الأمر كذلك، علمت أن طريقة العكس لا تجيء في «التمثيل» على حدّها في التشبيه الصريح، وأنها إذا سلكت فيه كان مبنيّا على ضرب من التأوّل والتخيّل يخرج عن الظاهر خروجا ظاهرا، ويبعد عنه بعدا شديدا.
فالتأويل في البيت: أنه لما شاع وتعورف وشهر وصف «السنّة» ونحوها بالبياض والإشراق، و «البدعة» بخلاف ذلك، كما قال النبي صلّى الله عليه وسلّم:«أتيتكم بالحنيفيّة البيضاء ليلها كنهارها»، وقيل:«هذه حجّة بيضاء»، وقيل للشبهة وكل ما ليس بحق:«إنه مظلم»، وقيل «سواد الكفر»، و «وظلمة الجهل»، يخيّل أن «السنن» كلها جنس من الأجناس التي لها إشراق ونور وابيضاض في العين، وأن «البدعة» نوع