فكذلك أنت، هذه قصّتك، وهذه قضيّتك، في اقتراحك علينا أن نسلك بالليل في البيت طريق المبالغة على تأويل السّخط.
فإن قلت: أفترى أن تأبى هذا التقدير في البيت أيضا حتى يقصر التشبيه على ما تفيده الجملة الجارية في صلة «الذي؟».
قلت: إنّ ذلك الوجه فيما أظنّه، فقد جاء في الخبر عن النبي صلّى الله عليه وسلّم:«ليدخلنّ هذا الدين ما دخل عليه الليل»، فكما تجرّد المعنى هاهنا للحكم الذي هو لليل من الوصول إلى كل مكان، ولم يكن لاعتبار ما اعتبروه من شبه ظلمته وجه، كذلك يجوز أن يتجرّد في البيت له، ويكون ما ادّعوه من الإشارة بظلمة الليل إلى إدراكه له ساخطا، ضربا من التعمّق والتطلّب لما لعلّ الشاعر لم يقصده. وأحسن ما يمكن أن ينتصر به لهذا التقدير أن يقال: إن النهار بمنزلة الليل في وصوله إلى كل مكان، فما من موضع من الأرض إلا ويدركه كلّ واحد منهما، فكما أن الكائن في النهار لا يمكنه أن يصير إلى مكان لا يكون به ليل، كذلك الكائن في الليل لا يجد موضعا لا يلحقه فيه نهار، فاختصاصه الليل دليل على أنه قد روّى في نفسه، فلما علم أن حالة إدراكه وقد هرب منه حالة سخط، رأى التمثيل بالليل أولى، ويمكن أن يزاد في نصرته بقوله:[من الرمل]
نعمة كالشّمس لمّا طلعت ... بثّت الإشراق في كلّ بلد (١)
وذاك أنه قصد هاهنا نفس ما قصده النابغة في تعميم الأقطار، والوصول إلى كل مكان، إلّا أن النعمة لما كانت تسرّ وتؤنس، أخذ المثل لها من الشمس. ولو أنه ضرب المثل لوصول النعمة إلى أقاصي البلاد، وانتشارها في العباد، بالليل ووصوله إلى كل بلد، وبلوغه كلّ أحد، لكان قد أخطأ خطأ فاحشا، إلّا أن هذا وإن كان يجيء مستويا في الموازنة، ففرق بين ما يكره من الشّبه وما يحبّ، لأن الصفة المحبوبة إذا اتصلت بالغرض من التشبيه، نالت من
العناية بها والمحافظة عليها قريبا مما يناله الغرض نفسه. وأمّا ما ليس بمحبوب، فيحسن أن يعرض عنها صفحا، ويدع الفكر فيها.
وأما تركه أن يمثّل بالنهار، وإن كان بمنزلة الليل فيما أراه، فيمكن أن يجاب عنه بأنّ هذا الخطاب من النابغة كان بالنهار لا محالة، وإذا كان يكلّمه وهو في
(١) هو في زيادات ديوان العباس بن الأحنف، وهو في الوساطة ص ٢٠١، منسوبا إليه، وفي المخطوطة ومطبوعة ديتر: «ثبت الإشراق» وفي مطبوعة رشيد رضا والوساطة ما أثبت (شاكر).