عرفا جاريا، وأمرا مشهورا متعارفا، يعلم كل واحد منه ما يعلمه، وليس بمتعذّر أن تقول:«غيث وثان للغيث اتفقا»، أو تقول:«الأمير ثاني الغيث والغيث اتّفقا».
فقد حصل من هذا الباب: أن الاسم المستعار كلما كان قدمه أثبت في مكانه، وكان موضعه من الكلام أضنّ به، وأشدّ محاماة عليه، وأمنع لك من أن تتركه وترجع إلى الظاهر وتصرّح بالتشبيه، فأمر التخييل فيه أقوى، ودعوى المتكلم له أظهر وأتمّ.
واعلم أن نحو قول البحتري:[من الكامل]
غيثان إن جدب تتابع أقبلا ... وهما ربيع مؤمّل وخريفه
لا يكون مما نحن بصدده في شيء، لأنّ كلّ واحد من الغيثين في هذا البيت مجاز، لأنه أراد أن يشبّه كل واحد من الممدوحين بالغيث، والذي نحن بصدده، هو أن يضمّ المجاز إلى الحقيقة في عقد التثنية، ولكن إن ضممت إليه قوله (١): [من الطويل]
فلم أر ضرغامين أصدق منكما ... عراكا، إذا الهيّابة النكس كذّبا
كان لك ذلك، لأن أحد الضرغامين حقيقة والآخر مجاز.
فإن قلت: فهاهنا شيء يردّك إلى ما أبيته من بقاء حكم التشبيه في جعله أباه الغيث، وذلك أن تقدير الحقيقة في المجاز إنما يتصوّر في نحو بيت البحتري:
فلم أر ضرغامين من حيث عمد إلى واحد من الأسود، ثم جعل الممدوح أسدا على الحقيقة قد قارنه وضامّه. ولا سبيل للفرزدق إلى ذلك، لأن الذي يقرنه إلى أبيه هو الغيث على الإطلاق، وإذا كان الغيث على الإطلاق، لم يبق شيء يستحقّ هذا الاسم إلا ويدخل تحته. وإذا كان كذلك، حصل منه أن لا يكون أبو الفرزدق غيثا على الحقيقة.
فالجواب أن مذهب ذلك ليس على ما تتوهّمه، ولكن على أصل هو التشبيه، وهو أن يقصد إلى المعنى الذي من أجله يشبّه الفرع بالأصل كالشجاعة في الأسد، والمضاء في السيف، وينحّي سائر الأوصاف جانبا. وذلك المعنى في الغيث هو النّفع العامّ، وإذا قدّر هذا التقدير، صار جنس الغيث كأنه عين واحدة وشيء واحد. وإذا
(١) الهيّابة: كثير الخوف مبالغة من هاب، والنكس بكسر النون المشددة: الرجل الضعيف المقصّد عن غاية النجدة والكرم. راجع لسان العرب ٦/ ٤٥٤١، ٤٧٣٠.