المبتدأ وينصبون بها الخبر فيقولون:«ما زيد منطلقا»، كما يقولون:«ليس زيد منطلقا»، فنخبر عن تقدير قدّروه في نفوسهم، وجهة راعوها في إعطاء «ما» حكم «ليس» في العمل. فكما لا يتصوّر أن يكون قولنا:«ما زيد منطلقا»،
تشبيها على حدّ «كأنّ زيدا الأسد»، كذلك لا يكون «صاغ الربيع» من التشبيه. فكلامنا إذن في تشبيه مقول منطوق به، وأنت في تشبيه معقول غير داخل في النطق. هذا، وإن يكن هاهنا تشبيه، فهو في الربيع لا في الفعل المسند إليه، واختلافنا في «صاغ» و «حاك» هل يكون تشبيها واستعارة أم لا؟ فلا يلتقي التشبيهان، أو يلتقي المشئم والمعرق.
وهذا هو القول على الجملة إذا كانت حقيقة أو مجازا، وكيف وجه الحدّ فيها؟
فكلّ جملة وضعتها على أن الحكم المفاد بها على ما هو عليه في العقل، وواقع موقعه منه، فهي حقيقة. ولن تكون كذلك حتى تعرى من التأوّل، ولا فصل بين أن تكون مصيبا فيما أفدت بها من الحكم أو مخطئا وصادقا أو غير صادق.
فمثال وقوع الحكم المفاد موقعه من العقل على الصحة واليقين والقطع قولنا:
«خلق الله تعالى الخلق، وأنشأ العالم، وأوجد كل موجود سواه». فهذه من أحقّ الحقائق وأرسخها في العقول، وأقعدها نسبا في العقول، والتي إن رمت أن تغيب عنها غبت عن عقلك، ومتى هممت بالتوقّف في ثبوتها استولى النّفي على معقولك، ووجدتك كالمرميّ به من حالق إلى حيث لا مقرّ لقدم، ولا مساغ لتأخّر وتقدّم، كما قال أصدق القائلين جلّت أسماؤه، وعظمت كبرياؤه: وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكانٍ سَحِيقٍ [الحج: ٣١].
وأمّا مثال أن توضع الجملة على أن الحكم المفاد بها واقع موقعه من العقل، وليس كذلك، إلا أنه صادر من اعتقاد فاسد وظنّ كاذب، فمثل ما يجيء في التنزيل من الحكاية عن الكفار نحو: وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ [الجاثية: ٢٤]، فهذا ونحوه من حيث لم يتكلم به قائله على أنّه متأوّل، بل أطلقه بجهله وعماه إطلاق من يضع الصّفة في موضعها، لا يوصف بالمجاز، ولكن يقال:«عند قائله أنه حقيقة»، وهو كذب وباطل، وإثبات لما ليس بثابت، أو نفي لما ليس بمنتف، وحكم لا يصحّحه العقل في الجملة، بل يردّه ويدفعه، إلّا أن قائله جهل مكان الكذب والبطلان فيه، أو جحد وباهت.
ولا يتخلّص لك الفصل بين الباطل وبين المجاز، حتى تعرف حدّ المجاز،