قضايا العقول، وصحّحتها الخبرة والعبرة، ولكن ربّ قضية من العقل نافذة قد صارت كأنها من الأمور المتجوّز فيها، أو دون ذلك في الصحة، لغلبة الجهل والسفه على الطباع، وذهاب من يعمل بالعقل ويذعن له، ويطرح الهوى، ويصبو إلى الجميل، ويأنف من القبيح، ولذهاب الحياء وبطلانه، وخروج الناس من سلطانه، ويأس العاقل من أن يصادف عندهم، إن نبّه أو ذكّر، سمعا يعي، وعقلا يراعي، فجري «الغنى» على كثرة المال، و «الفقر» على قلّته، مما يزيله العرف عن حقيقته في اللغة. ولما كان الظاهر من حال الكثير المال أنه لا يعجز عن شيء يريده من لذّاته وسائر مطالبه، سمّي المال الكثير «غنى»، وكذلك لمّا من كان قلّ ماله، عجز عن إرادته، سمّي قلّة المال «فقرا»، فهو من جنس تسمية السبب باسم المسبّب، وإلا فحقيقة «الغنى» انتفاء الاحتياج، وحقيقة «الفقر» الاحتياج، والله تعالى الغنيّ على الحقيقة، لاستحالة الاحتياج عليه جلّ وتعالى عن صفات المخلوقين.
وعلى ذاك ما جاء في الخبر من أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال:«أتدرون من المفلس؟
قالوا: المفلس فينا يا رسول الله من لا درهم له ولا متاع. قال: المفلس من أمّتي من يأتي يوم القيامة بصلاته وزكاته وصيامه، فيأتي وقد شتم هذا، وأكل مال هذا، وقذف هذا، وضرب هذا، وسفك دم هذا، فيعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يفنى ما عليه من الخطايا، أخذ من خطاياهم فطرحت عليه، ثم
طرح في النار».
ذاك أنه صلّى الله عليه وسلّم بيّن الحكم في الآخرة. فلما كان الإنسان إنما يعدّ غنيّا في الدنيا بماله، لأنه يجتلب به المسرّة ويدفع المضرّة، وكان هذا الحكم في الآخرة، للعمل الصالح، ثبت لا محالة أن يكون الخالي، نعوذ بالله، من ذلك، هو «المفلس»، إذ قد عري مما لأجله يسمّى الخالي من المال في الدنيا «مفلسا»، وهو عدم ما يوصله إلى الخير والنعيم، ويقيه الشرّ والعذاب، نسأل الله التوفيق لما يؤمن من عقابه.
وإذا كان البحث والنظر يقتضي أن «الغنى» و «الفقر» في هذا الوجه دالّان على حقيقة هذا التركيب في اللغة (١)، كقولك:«غنيت عن الشيء» و «استغنيت عنه، إذا لم تحتج إليه و «افتقرت إلى كذا»، إذا احتجت إليه وجب أن لا يعدواها هاهنا في المستعار والمنقول عن أصله.
(١) قوله: «حقيقة هذا التركيب» أي: الحاجة إلى الشيء أو عدم الحاجة إليه قال شيخنا: والمراد من هذا التركيب ما ذكره بقوله: غنيت عن الشيء واستغنيت عنه. (رشيد).