للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

على أن عبارتك الأولى أشدّ وأقوى في المبالغة من هذا، فظلّ الرّمح على كل حال متناه تدرك العين نهايته، وأنت قد أخبرت عن اليوم بأنه كأنه لا آخر له، وكذلك تقول: «يوم كأقصر ما يتصوّر» و «كأنّه ساعة» و «كلمح البصر» و «كلا ولا»، فتجد هذا، مع كونه تمثيلا، لا يؤنسك إيناس قولهم: «أيام كأباهيم القطا»، وقول ابن المعتزّ: [من الكامل]

بدّلت من ليل كظلّ حصاة ... ليلا كظلّ الرمح غير موات (١)

وقول آخر: [من الوافر]

ظللنا عند باب أبي نعيم ... بيوم مثل سالفة الذّباب (٢)

وكذا تقول: «فلان إذا همّ بالشيء لم يزل ذاك عن ذكره وقلبه، وقصر خواطره على إمضاء عزمه، ولم يشغله شيء عنه»، فتحتاط للمعنى بأبلغ ما يمكن، ثم لا ترى في نفسك له هزّة، ولا تصادف لما تسمع أريحيّة، وإنما تسمع حديثا ساذجا وخبرا غفلا، حتى إذا قلت: [من الطويل] إذا همّ ألقى بين عينيه عزمه (٣) امتلأت نفسك سرورا وأدركتك طربة كما يقول القاضي أبو الحسن لا تملك دفعها عنك. ولا تقل إن ذلك لمكان الإيجاز، فإنه وإن كان يوجب شيئا منه، فليس الأصل له، بل لأن أراك العزم واقعا بين العينين، وفتح إلى مكان المعقول من قلبك بابا من العين.

وهاهنا، إذا تأمّلنا، مذهب آخر في بيان السبب الموجب لذلك، هو ألطف مأخذا، وأمكن في التحقيق، وأولى بأن يحيط بأطراف الباب. وهو أنّ لتصوير الشبه


(١) البيت هو في ديوانه.
(٢) البيت هو في الأزمنة والأمكنة غير منسوب. والسّالفة: أعلى العنق، وقيل: ناحية مقدّم العنق من لدن معلّق القرط إلى قلت الترقوة، والسالف: أعلى العنق، وقيل هي ناحيته من معلق القرط إلى الحاقنة، وحكى اللحياني: إنها لوضاحة السوالف، جعلوا كل جزء منها سالفة. [لسان العرب:
سلف].
(٣) البيت لسعد بن ناسب المازني، وتمامه:
ونكّب عن ذكر العواقب جانبا في شرح الحماسة ١/ ٣٥، وانظر دلائل الإعجاز ٢٢٠، تحقيق محمود شاكر- طبعة المدني.

<<  <   >  >>