للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

فإذا رأى، وهو جالس مع أبويه، أن معصية قد وقعت في المجلس، فإنه لا يملك، والحالة هذه، الا أحد امرين، لا ثالث لهما: أن يذكرهما بتقوى الله عز وجل، وبموقفهم غداً بين يديه، والعذاب الذي قد يبوآن به بسبب هذا العصيان، فلا يزال يذكر ويحذر وينهي بالحكمة والرفق.. حتى يبعث الله في قلبيهما التأثر من كلامه، فترفع المعصية ويزال المنكر.. أو أن ينهض فيفارق المجلس، بكل رقة ولباقة، بعد أن لا يجدي سعيه الأول شيئاً.

وعلى كل. فليس للمسلم ـ سواء عليه أذكر وحذر، أم قام ففارق المجلس ـ أن يغلظ في القول، أو أن يبعث النصيحة لأبويه من منبر التعالي والتعليم، أو ان يخدش شعورهما بأي تصرف ناب عن أسمى ما قد كلفنا الله به من اتباع الخلق النبيل مع الناس كلهم، فضلاً عن الأبوين..

وليكن رائدك في هذا، قول الله عز وجل: (وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما، وصاحبهما في الدنيا معروفاً..) .

ثالثاً ـ لا تشرع القطيعة عن الأبوين بأي حال، مهما بلغ من عصيانهما، ومهما بلغ الولد في تقواه واستقامته. فإن في عنق الولد لأبويه حقاً، لا يقطعه كفر ولا عصيان، ولا يجوز الاستهانة به، فضلاً عن تضييعه بحال من الأحوال.

فإن شكا. أنه لا يقدر أن يوفق بين وظائفه الدينية تجاه ربه جل جلاله، ووظائفه الأخرى تجاه أبويه.

لما يقع فيه من الحرج والتشاكس، فإنني اقول: إنك إن ضاعفت من برك بهما، وازددت تفانيا في خدمتهما، وضحيت ببعض وقتك وراحتك ودنياك، في سبيل القيام بهذا الأمر على خير وجه، فإنك لن تقع ـ على الأرجح ـ في أي حرج أو تشاكس. بل أن الأمر سيتحول لصالحك شيئا فشيئاً، وستجد أنهما يسعيان في تحقيق رغباتك، وتيسير السبيل إلى واجباتك الدينية، ولسوف يقدران شعورك الديني، على أقل تقدير، فلا يجالسانك إلا على حال تتفق والتزاماتك الدينية تجاه مولاك.

ولكن التشاكس قد يظهر، عندما يغفل الولد عن القيام بهذا المبدأ الهام، تجاه أبويه، ويبني من سلوكه الديني أمام أبويه شخصية متعالية متسامية عليهما.

وهذا العمل ينم عن جاهلية كبرى، وعن تقصير هذا الشاب بهذا السلوك، في جنب خالقه ومولاه، قبل أن يكون تقصيراً في جنب ابويه.

وأما المشكلة التي تعود إلى النوع الثاني، أي عندما تكون المشكلة نابعة من علاقات أنداد من الاقارب بعضهم مع بعض كالأخوة ونحوهم، فيجب لحلها أتباع السبل التالية:

أولاً: لا بد للشاب الذي يجد نفسه محفوفاً بحواش من الأقارب بعيدين عن الاسلام والالتزام بأحكامه، من أن يتحلى، ولو بقسط، مما يجب أن يتحلى به تجاه أبويه، من البر والرعاية والخدمة. فإن في ذلك ما يجعل له منفذاً إلى قلوبهم، ولا شك في أن التحلي بهذه الأخلاق سيكلفه شيئاً من التضحيات، وربما كثيراً من المصاعب في أول الأمر، ولكن فليعلم، أن ذلك هو الجهاد العظيم الذي شرفه الله به، وأن له على ذلك من الأجر والمثوبة عند الله عز وجل، ما لا يحده تصور، ولا يقع تحت حصر. وحسبه ألا يشتغل من واجبات الدعوة إلى الله عز وجل إلا في هذا الحقل وحده.

ثانياً ـ عليه أن يكثر من زياراتهم، وأن يطلب مثل ذلك منهم، كما يقول الإمام النووي في كتابه الروضة في اول باب الجهاد، وكما يقول الغزالي في كتابه الإحياء، على ان يجعل زياراته هذه ضمن إطار من الرعاية والاهتمام بهم، قدر ما يسمح به حاله، وصاحب البصيرة النافذة والذوق السليم، يعلم كيف ينتهز الفرص للتعبير عن ذلك كله على أحسن وجه.

ثم ليجعل الموضوع الرئيسي في حديثه إليهم، كلما التقى بهم، موضوع إرشادهم ونصيحتهم ودعوتهم إلى الله عز وجل، بروح من الشفقة والرحمة ومشاعر الحب لهم والغيرة عليهم. وليهيء منهاج حديثه وأساليب حجاجه ونقاشه، معهم، في وقت سابق، على أن يستعين بالله قبل كل شيء، فينضرع ويتبتل اليه ان يفتح مغاليق قلوبهم لكلامه، وأن يهبهم الهداية إلى الحق، وأن يقيه من فتنة العجب والرياء ويرزقه الإخلاص لوجهه.

ثالثاً ـ فإذا كان المجلس الذي يلقاهم فيه، لا يخلو من المعاصي، كنساء سافرات، أو حديث فيما لا يرضي الله، أو لهو غير مباح.. مما لا يدخل في صنف الكبائر. فليجعل كفارة جلوسه معهم عليها، إنكاره عليهم، ونصيحتهم في الإقلاع عنها، وتحذيرهم من سخط الله وعقابه فإن هم استجابوا في المجلس ذاته فذاك وان لم يستجيبوا، تأمل خيراً في لقاءات أخرى.

وليحرص على ألا يكون قصده في مجالستهم إلا تذكيرهم بالحق ودعوتهم الى الله.

حتى إذا استقر في قلبه ويقينه ـ من جراء التجارب والمحاولات الكثيرة ـ اليأس من انصياعهم للحق، قاطعهم، وأمسك عن زيارتهم، تنفيذاً لأمر الله عز وجل في ذلك: (وإما ينسينك الشيطان، فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين) الأنعام:٦٨. على أن تكون هذه القطيعة خالصة لوجه الله عز وجل ليس فيها شيء من حظوظ النفس، ويظهر هذا القصد منك باتباع الآداب التالية:

<<  <   >  >>