أحدهما: استصحاب حال الفعل، وذلك إِذا ادَّعى في المَسْأَلة أحد الخَصْمَيْن حكمًا شرعيًا. وادّعى الآخر البقاء على حكم العقل، وذلك مثل أن يسئل المَالِكِيُّ عن وجوب الوِترِ، فيقول: الأصل بَرَاءَة الذِّمَّة، وطريق اشتغالها الشرع، فمن ادَّعى شرعًا يوجب ذلك، فعليه الدليل، وهذه طريقة صحيحة من الاستدلال.
والثاني: استصحاب حال الإجماع، وذلك مثل استدلال دَاوُدَ على أن أم الولد يجوز بيعها لأنَّا قد أجمعنا على جَوَاز بَيْعِهَا، قبل الحَمْل، فمن ادَّعى المنع من ذلك، فعليه الدليل، وهذا غير صحيح من الاستدلال، لأن الإجماع لا يتناول موضع الخِلاف، وإنما يتناول موضع الاتفاق، وما كان حُجَّة، فلا يصح الاحتجاج به في الموضع الذي لا يتناوله، كلفظ صاحب الشرع إِذا تناول موضعًا خاصًّا لم يجز الاحتجاج به في الموضع الذي لا يتناوله.
فَصْلٌ
إِذا ثبت ذلك، فليس في العَقْل حَظْر، ولا إِباحة، وإنما تثبت الإِباحة أو التحريم بالشرع، والباري -سبحانه- يحلِّل ما شاء، ويحرّم ما شاء، هذا قول جمهور أصْحَابنا.
وقال أَبُو بَكْرِ الأَبْهرِيُّ: الأشياء في العَقْل على الحَظْر، وقال أَبُو الفَرَجِ المَالِكِيُّ: الأشياء في العقل على الإباحة، والدليل على ما نقوله إنه لو كان العقل يوجب إِباحة شيء من هذه الأعيان، أو حظره لاستحال أن ينقله الشرع عما يقتضيه في العقل، لاستحالة ورود الشرع لما ينافي العقل، كما يستحيل أن يرد نفي أن الاثنين أكثر من الوَاحِدِ.
فَصْلٌ
مَن ادَّعى نفي حكم وجب عليه الدليل، كما يجب ذلك على من أثبته.
وقال دَاوُدُ: لا دليل على النافي، والدليل على ذلك قوله تعالى:{وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى}[البقرة: الآية ١١١] الآية: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}[البقرة: الآية ١١١].