الحضارة، ولكنها كانت ذاتَ ذكاء وحُسْن تصرُّفٍ في فنون البيان.
وهذه الخطب تُمَثِّلُ الخطابةَ في عهد الجاهلية، سواءٌ علينا أكانت مأثورةً على نحو الواقع أم وصلت أَثَارةٌ منها إلى أيدي الرواة، وأضاف إليها بعضُهم جُمَلاً تحاكيها في أسلوبها وطِرْز تفكيرها.
ولا وجه لإنكار أن يكون في العرب قبل الإسلام خطابة ممتازة، فإن الخطابة أثرُ انفعالاتٍ تنشأ عن حوادث تَمَسُّ الجماعات، ولم تخلُ حالُ العرب من حوادثَ على هذا النَّحْو، فقد كانوا مطبوعين على التَّفَاخر بخصالِ السُّؤْدَدِ، كإباءةِ الضَّيْم، وحماية الجار، وعلى التَّفَاخر بمجد الآباء والعشيرة والقبيلة، فتثورُ بينهم لهذه الطبيعةِ محاوراتٌ شديدةٌ، وجِدَالٌ عنيف، وكانت الحروب بينهم لا تكاد تضعُ أوزارَها، وكانت لهم بعدَ هذا مجامعُ ينشرون فيها مصنوعاتِ قرائحِهم، ليباهوا بما فيها من بلاغةٍ وحكمة.
وإذا كان في لغة القوم بلاغةٌ، وفي نفوسهم طُمُوحٌ إلى السِّيَادة، وفي ألسِنتهم قوةٌ على الجَدَل، وشِدَّةٌ في المُحَاورة، وفي أَيْمَانهم سيوفٌ تتجافى عن أغمادها، وفي بلادهم أسواقٌ بضاعتُها ما تبتدعُه القرائح، فما الذي يمنعهم من أن يلدوا خطباءَ يقرَعُون الأسماع بذكر مفاخرهم، ويُثيرون العواطفَ إلى الدفاع عن أعراضهم وأنفسهم وأموالهم؟
طلع الإسلام بشأنه الخطير فاتسع مجال الخطابة، واشتدت البواعث على ركوب منابرها، ومن أهم هذه البواعث: الدعوة إلى هداية