للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

يشرع في الكتابة، والتجربة قد تكون ذات طابع نفسي أو اجتماعي أو إنساني، والبعد الفكري عنصر أساسي من عناصر التجربة الشعرية، ولكن للفكر طبيعة مختلفة في الشعر عن الحقائق الموضوعية المجردة؛ فالشعر يحول الحقائق الفكرية إلى حقائق نفسية، ولكن ينبغي أن لا يكون إبراز الفكرة هدفًا أساسيًا في الشعر، يقول ابن رشيق: "والفلسفة وجر الأخبار باب آخر غير الشعر فإن وقع فيه شيء منهما فبقدر، ولا يجب أن يجعلا نصب العين فيكونا متكئًا واستراحة؛ وإنما الشعر ما أطرب وهز النفوس، وحرك الطباع، فهذا هو باب الشعر الذي وضع له، وبني عليه، لا ما سواه"١، والصدق أساس في التجربة الشعرية، ولكن مفهوم الصدق هنا مختلف عما هو معروف خلقيًا، فالمقصود به صدق الشعور والإحساس بالموقف سواء عاناه الشاعر بنفسه أو لاحظه أو تخيله كما في قصيدة العمالقة للشاعر الرمزي "بودلير"، وقد يعبر الشعر عن الشوق إلى المثل العليا، فيكون غارقًا في واقع آسن منحرف، ثم يعبر عن حياة مثالية، فالشعر يعبر عن التطلع المثالي، وقد يكون موضوع الشعر قليل القيمة والأهمية، ومع ذلك يضفي عليه الشاعر من وجدانه وخياله ما يثريه ويبرز مذخوره الإنساني. ولابن الرومي أبيات رائعة في المشاهد العادية كوصفه للخباز مثلًا، وقد تأخذ التجربة الشعرية طابعًا جديًا وهزليًا، فإن ثمة فرقًا بين الجمال الطبيعي والجمال الفني، فقد يستخرج الشاعر مما قبح منظره من معان موحية بأجمل المشاعر فليس هناك موضوعات محددة للشعر، ولا بد أن تكون التجربة الشعورية استجابة لدوافع نفسية ووجدانية قوية، ولا يمكن الفصل بين التجارب الذاتية وإيحاءاتها الإنسانية، فقد ينفذ الشاعر من خلال المعاناة الذاتية إلى ما هو إنساني وواقعي، وقد تقوم التجربة على معاناة فكرة جوهرية ذات قيمة، ولكن الشاعر يقصر في صياغتها وإبرازها لتقوقعه داخل إطارها المجرد، كما نرى في كثير من أشعار العقاد، ويرى بعض علماء الجمال أن على


١ابن رشيق: العمدة في محاسن الشعر وآدابه ونقده، حققه محمد محي الدين، دار الجيل بيروت ط٤، سنة ١٩٨٢ ج١ ص١٢٨.

<<  <   >  >>