للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

القصيدة الحديثة فهي مشرعة الأبواب أمام الاجتهادات التقنية والجمالية، فلكل قصيدة أسلوبها وطرائقها في التعبير، فهي أشبه بالمغامرة اللغوية كما يقول أصحاب هذا الاتجاه في بناء القصيدة.

ويرى بعض الباحثين أن الفرق بين الاتجاه القديم والاتجاه الحديث في بناء القصيدة يكمن في أن القصيدة القديمة ما إن تشرع في بنائها حتى تتضح لك معالمها الجمالية ونموذجها المتحقق في عدد من القصائد السابقة من حيث البحر والقافية والروي، بينما تشرع في بناء قصيدة من النمط الجديد فلا تتضح معالمها وإطارها وإنما تتشكل وفقًا للتجربة، وتستدعي نهجها الخاص حتى إذا اكتملت؛ برزت تضاريسه وتكاملت، فالقصيدة القديمة لها تصور مسبق جاهز، وأما الجديدة فتسعى إلى الكشف وارتياد المجهول والتغلغل المتصل في باطن الأشياء، ويتلخص هذا النهج فيما سمي بجماليات التوقع في القصيدة القديمة، أي: أنك تستطيع أن تتنبأ بما سيأتي في مراحلها المتعددة، أما جماليات الإدهاش في القصيدة الجديدة فتقوم على مبدأ المفاجأة، فليس ثمة ما يساعد على توقع مراحلها القادمة، فأنت دائم التنبه واليقظة لاستقبال ما هو مفاجئ ومدهش، لهذا كان التطور المتلاحق في المنجزات الفنية في القصيدة الجديدة خلال حقبة زمنية قصيرة فكانت المرحلة الأولى تتسم بالتهيج العاطفي "الميلودراما"، والمرحلة الثانية قفزت إلى آفاق أوسع تمثلت في "الدراما"، وتعدد١ الصوت داخل القصيدة الواحدة، ثم قفزت إلى مرحلة ثالثة في أعقاب نكسة حزيران، ودخلت في عتمة الغموض فانكفأ الشعراء على ذواتهم يستنبطون دواخلهم ويتقوقعون في أقبيتها الكابوسية، ثم انتهت إلى جماليات التجريد حيث كادت تتحول القصيدة إلى مجرد تشكيل فني مقصود لذاته يبرأ من المفاهيم وينشغل بالصنعة في ذاتها ولذاتها.


١ راجع فيما يختص بهذا الأمر المحاضرة التي ألقاها الدكتور، عز الدين إسماعيل في النادي الأدبي بجدة تحت عنوان: جماليات القصيدة في الشعر العربي ص٣٣.
المجلد الرابع، كتاب النادي الأدبي الثقافي ٤٨ جدة ١٤٠٨هـ-١٩٨٨م.

<<  <   >  >>