للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

في كل أعرابي يتصل بالمدينة ويكتسب من مظاهر حضارتها. قال الجاحظ١:

"سمعت ابن بشير، وقال له أبو الفضل العنبري -يبدو أنه أحد الأعراب-: إني عثرت البارحة بكتاب، وقد التقطته، وهو عندي، وقد ذكروا أن فيه شعرًا، فإن أردته وهبته لك. قال ابن بشير: أريده إن كان مقيدًا. قال: والله ما أدري أمقيد هو أم مغلول. ولو عرف التقييد لم يلتفت إلى روايته.

وهذا الحكم الذي فرضوه على الأعراب سحبوه أيضًا على الشعراء أنفسهم، حتى الشعراء الإسلاميين الذين كانوا معروفين باتصالهم الوثيق بالبادية، فكانوا لذلك مصدرًا لهؤلاء اللغويين والرواة ومعتمدًا لهم فيما يذكرونه من شواهد وأمثلة.

وأوضح ما يبين لنا ذلك أن أبا النجم العجلي الراجز وذا الرمة قد عيبا بمعرفة الكتابة فأنكرها ذو الرمة. قال أبو بكر الصولي٢: قد عيب أبو النجم بهذا [أي بقوله:

أقبلت من عند زياد كالخرف ... تخط رجلاي بخط مختلف

كأنما قد كتبا لام ألف] .

فقيل: لولا أنه يكتب ما عرف صورة لام ألف، كما عيب ذو الرمة في وصف ناقته:

كأنما عينها فيها -وقد ضمرت ... وضمها السير في بعض الأضا- ميم٣

وقال أيضًا: "قرأ حماد الرواية على ذي الرمة شعره، قال: نراه قد ترك في الخط لامًا، فقال له ذو الرمة: اكتب لامًا. فقال له حماد: وإنك لتكتب؟ قال: اكتم عليَّ فإنه كان يأتي باديتنا خطاط فعلمنا الحروف تخطيطًا في الرمال


١ البيان والتبيين ١: ١٦٣-١٦٤.
٢ أدب الكتاب: ٦٢، وانظر أيضًا الشعر والشعراء ١: ٥٠٧، قال ابن قتيبة: وقال عيسى بن عمر "توفي سنة ١٤٩" قال لي ذو الرمة: ارفع هذا الحرف فقلت له: أتكتب؟ فقال بيده على فيه، أي: اكتم علي، فإنه عندنا عيب.
٣ الأضاة: الغدير. يقول: كأن عينها دارة ميم لتدويرها.

<<  <   >  >>