للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

في الليالي المقمرة فاستحسنها فثبتت في قلبي، ولم تخطها يدي".

فإذا كان هذا رأي هؤلاء العلماء الرواة في القرن الثاني الهجري في الشعراء الإسلاميين أنفسهم، فلا بد أن يكون رأيهم هذا أكثر تشددًا وغلوًّا في الشعراء الجاهليين؛ ولذلك نحسب أن أخبار معرفة الشعراء الجاهليين بالكتابة قد وصلتنا ناقصة مبتورة مشوهة، ولولا هذا الوهم الخاطئ لوصلنا الشيء الكثير الذي يدعم ما نذهب إليه.

-٤-

الثالث: وثالث هذه الأدلة متصل كذلك بالسابقين لا يكاد ينفصل عنهما، ومداره على طبيعة ضرب من الشعر هو هذا الشعر الذي كان يتكلفه صاحبه تكلفًا بعد جهد ومشقة، لا يرتجله ارتجالًا، ولا يناسب منه عن طبع وفي يسر وسماحة، وإنما يقول البيت أو الأبيات ثم يطويها إلى أن توافيه أبيات أخرى يضمها إلى سابقاتها، فإذا ما اكتملت له القصيدة طواها كلها، وأخذ يعيد فيها نظره: يهذب من ألفاظها كلما سنح له وجه من وجوه التهذيب ويقوم بعض ما لم يكن قد استقام له من معانيها كلما واتته فرصة التقويم ذلك هو الشعر الحولي المحكك، وأولئك الشعراء هم عبيد الشعر كما سماهم الرواة العلماء١. قال الجاحظ٢: "ومن شعراء العرب من كان يدع القصيدة تمكث عنده حولًا كريتًا، وزمنًا طويلًا، يردد فيها نظره، ويجيل فيها عقله ويقلب فيها رأيه، اتهامًا لعقله، وتتبعًا على نفسه، فيجعل عقله زمامًا على رأيه، ورأيه عيارًا على شعره، إشفاقًا على أدبه، وإحرازًا لما خوله الله تعالى


١ ابن قتيبة: الشعر والشعراء ١: ٢٣.
٢ البيان والتبيين ٢: ٩.

<<  <   >  >>