للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وقد كان طفيل الغنوي في الجاهلية يدعى: المحبر، لتحسينه الشعر١.

وقد مر بنا أن ابن فارس٢ يرى أن بعض شعراء الجاهلية كان يعرف علم العربية والعروض: ما كان منه متصلًا ببحور الشعر أو بقوافيه وعيوبها -مهما تكن الألفاظ الاصطلاحية التي كانوا يستخدمونها-، وقد أضفنا بعض ما عثرنا عليه مما يؤيد رأي ابن فارس في معرفة الشعراء الجاهليين بهذه العلوم.

ولا ريب أن ما قدمنا من حديث واضح الدلالة على أننا لا نعمم فيما نلقي من أحكام، فنحن لا نقصد أن كل شعراء الجاهلية كانوا يعرفون هذه العلوم، ولا نقصد كذلك أن جميع شعراء الجاهلية كانوا يتروون في نظم قصائدهم ويثقفونها وينقحونها. ولكننا نخص بحديثنا هذه الفئة من الشعراء التي كانت ترى الشعر عملًا عقليًّا تفكر فيه بعقلها كما تحسه بعاطفتها، وتنظمه وترصعه كما ترصع حجارة الفسيفساء.

وإذا كانا لا ننكر أن بعض الشعراء كانوا يرتجلون الشعر ارتجالًا، وأن بعضهم كان يندلث منه الشعر أندلاثًا هينًا سمحًا، وأن هاتين الطائفتين، أو بعض رجالهما، لا تضطرهم طبيعة هذا الضرب من الشعر إلى تقييده وإثباته بالكتابة، إذا كنا لا ننكر ذلك، فإنه لا بد لنا أن نتريث قليلًا عند الفئة الأخرى من الشعراء وشعرهم، وأن نتوقف عن أن نسحب عليهم حكم الضرب الأول. فنحن لا نفهم كيف يستطيع الشاعر الذي تمكث عنده القصيدة "حولًا كريتًا، وزمنًا طويلًا، يردد فيها نظره، ويحيل فيها عقله، ويقلب فيها رأيه، واتهامًا لعقله، وتتبعًا على نفسه، فيجعل عقله زمامًا على رأيه، ورأيه عيارًا على شعره، إشفاقًا على أدبه، وإحرازًا لما خوله الله تعالى من نعمته ... "، والشاعر الذي كان يعرض له في الشعر من "الصبر


١ الزمخشري: الفائق١: ٥٤١.
٢ الصاحبي في فقه اللغة: ٨-١١.

<<  <   >  >>