للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

عليه، والملاطفة له، والتلوم على رياضته، وإحكام صنعته نحو مما يعرض لكثير من المولدين.." والشاعر الذي كانت تكثر عليه القوافي فيذودها عنه ذيادًا، ثم ينتقي منها الجيد انتقاء، وينظر إلى قوافيه وألفاظه نظرة الجوهري إلى لآلئه: يعزل مرجانها جانبًا، ويأخذ المستجاد من درها..، والشاعر الذي يتنخل كلامه تنخلًا، ويثقف ألفاظه وقوافيه حتى تلين تمنونها، نحن لا نفهم كيف يستطيع هؤلاء الشعراء أن يقوموا بهذا العمل العقلي الذي يستغرق هذا الوقت المديد دون أن يكون الشعر مقيدًا أمامهم على صحيفة يرجعون إليها بين وقت وآخر: يزيدون عليه أو ينقصون منه، ويستبدلون لفظة بلفظة، وقافية بقافية. وهل يصح بعد هذا أن نذهب إلى أن هؤلاء الشعراء الذين كانوا يصنعون الشعر صناعة، بل يصنعونه تصنيعًا، ويعرفون من بحوره وقوافيه ولغته وإعرابه ما لا يُكتسب إلا بالتعليم والدراسة، هل يصح أن نذهب إلى أن هؤلاء الشعراء كانوا أميين ويستطيعون أن يقوموا بهذه "العمليات" المعقدة المتراكبة فطرةً وطبعًا، والشعر معلق في ذاكرتهم لا يعدوها؟

أحسب أن لا، وأحسب أن الأرجح أن هذا الضرب من الشعر المنقح كان يفرض عليهم أن يقيدوه على ما كانوا يملكون من صحف الكتابة التي بيَّنَّا أنواعها في فصل سابق.

<<  <   >  >>