والعلماء هؤلاء يشيرون إلى أن ذلك كان في عصور جيولوجية سحيقة في القدم، ولكن ما ذكرناه من أمر الشعر الجاهلي دال على أن ذلك كان مألوفًا في العصر الجاهلي الأخير. ومما يؤيد ذلك أن ديودوروس الصقلي -في القرن الأول قبل الميلاد- يذكر أن بلاد العرب التي تقع في الشمال من العربية السعيدة وتمتد حتى تجاور سورية "يتخللها كثير من الأنهار ويهطل عليها مطر غزير في الصيف فيكون لسكانها بذلك موسمان زراعيان في السنة الواحدة" "انظر: Diodorus Siculus, London, Book ٢, p.٥٤" وقد ذكر عرام السلمي أسماء كثير من القرى الزراعية وأنواع فواكهها وثمارها وأشار إلى كثرة مائها، من ذلك قوله عن جبلي رضوى وعزور: "في الجبلين جميعًا مياه أوشال، والوشل: ماء يخرج من شاهقة لا يطورها أحد ولا يعرف منفجرها.. ويصب الجبلان في وادي غيقة، وغيقة تصب في البحر، ولها مسك: وهي مواضع تمسك الماء، واحدها مساك" "ص٦" ويذكر "ينبع" فيقول: "قرية كبيرة غناء ... فيها عيون عذاب غزيرة الماء وواديها يليل يصب في غيقة ... وفي يليل هذه عين كبيرة تخرج من جوف رمل من أعذب ما يكون من العيون وأكثرها ماء ... " "ص٨، ٩" ويذكر "الصفراء" فيقول: "قرية كثيرة النخل والمزارع وماؤها عيون كلها، وهي فوق ينبع مما يلي المدينة، وماؤها يجري إلى ينبع" "ص٨" ويذكر قرية السوارقية وفواكهها فيقول: "قرية غناء كثيرة الأهل.. ولهم مزارع ونخيل كثيرة وفواكه وموز وتين ورمان وعنب وسفرجل وخوخ.." "ص٦٥". وهو يذكر كثرة المطر فيقول: "وغدير خم هذا.. لا يفارقه ماء أبدًا من ماء المطر" "ص٣٣" ويذكر الآبار التي في بعض الجبال فيقول عن مائها إنه "ماء سماء لا تنقطع هذه المياه لكثرة ما يجتمع فيها" "ص٥٤". بل إن هذه الأمطار ما زالت إلى يومنا هذا تهطل على الصحاري نفسها -بله السهول والجبال- كصحاري النفود والربع الخالي حتى إنها لتغطيها "ببساط من الخضرة يحولها إلى جنة للإبل والأغنام"، "وتغنى الأرض بالمراعي" "انظر تاريخ العرب، مطول ١: ١٧" وانظر كذلك ص٢٠، ٢١ ففيهما وصف للخصب والخضرة في هضبة نجد وفي الحجاز وعير واليمن في أيامنا هذه.