وقرى، وتهتز الأرض فتخرج من ثمرها وبقلها وفاكهتها ما شاء لها الله؛ ويكون من كل ذلك تلك الحضارة الزراعية التي عرفها التاريخ في العرب والأمم الأخرى ذات طابع واضح ومعالم مميزة. وقد تضن الطبيعة بمائها فلا تكاد ترسله إلا بمقدار، ثم تمسك إمساك الشحيح يندم على ما بسط من يده؛ فيكون من هذا الرذاذ الهين اللين سهوب ومراع ينتجعها قطان الصحاري بأنعامهم يلتمسون الكلأ، ثم لا تكاد تطمئن بهم النوى حتى تقتلعهم اقتلاعًا، وتقذفهم إلى مرعى جديد يكون أوفر حظًّا وأوفى نصيبًا. فتنشأ من ذلك طبقة اجتماعية عرفها التاريخ كذلك في سيره الطويل بطابعها الواضح ومعالمها المميزة.
وهذه الصحراء العربية يضيق جوفها عن أن يمد لقطانها من أسباب العيش غير ما كان يعيش عليه رجل الغابة الأول: يتنكب قوسه ويعلق كنانته، أو يحمل رمحه ويتقلد سيفه، ثم يضرب في الأرض باحثًا عن قوته بين حيوان الصحراء، وقد يؤوب بصيد سمين وقد يكون هو الصيد، أو قد يفوته ما أمل، فلا يجد له بدًّا من أن يجعل هدفه أخًا له يفتك به ويجرده مما يجوز. فتكون من ذلك طبقة اجتماعية ثالثة هي أولى الجماعات التي عرفها التاريخ منذ أن وجد الإنسان.
ولقد كانت هذه البلاد في مكان سوى بين أمم العالم، يتوسط الشرق والغرب، ويصل الجنوب بالشمال، فلا بد إذن من أن تكون طريقًا تجتازه التجارة من الشرق والجنوب إلى الشمال والغرب. وكان لا بد أن يكون لهذه التجارة قوامون يبذلون من مالهم ومن جهدهم في شرائها ونقلها وحراستها ثم بيعها ما يضطرهم إلى تنظيم أمرها وتهيئة وسائلها، فنشأت من ذلك تجارتان: تجارة داخلية محلية،