للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

إليه ما خلا عبد الملك، ما أنشدته شعرًا ولا حدثته حديثًا إلا وهو يزيدني فيه، وكنت ربما حدثته وفي يده اللقمة فأمسكها، فأقول: يا أمير المؤمنين أسع طعامك، فإن الحديث من ورائه، فيقول: ما تحدثني به أوقع بقلبي من كل لذة، وأحلى من كل فائدة".

أما معاوية بن أبي سفيان فقد مرت بنا أطراف من عنايته بأخبار الماضين، وأيام العرب في جاهليتهم، وشعر شعرائهم. وذكرنا أنه كان له غلمان مرتبون يكتبون هذه الأحاديث في دفاتر ويقرءونها عليه في ساعات معينة من ليله. وكانت لمعاوية -فضلًا عن ذلك- مجالس ينشد هو ما يحفظ من الشعر فيها، ويستنشد من يحضر من الرواة والعلماء والأعراب، ويستمع فيها إلى أحاديث العرب وأخبارها. وقد قال مرة للنخار بن أوس١: "ابغني محدثًا قال: ومعي يا أمير المؤمنين تريد محدثًا! قال: نعم، أستريح منه إليه، ومنه إليك ... "

وقد التفت معاوية في أحد مجالسه إلى عبد الله بن الزبير وقال متمثلًا٢:

ورامٍ بعوران الكلام كأنها ... نوافر صبح نفرتها المرائع

وقد يدحض المرء الموارب بالخنا ... وقد تدرك المرء الكريم المصانع

ثم قال لابن الزبير: من يقول هذا؟ فقال: ذو الإصبع. فقال: أترويه؟ قال: لا. فقال: مَن هاهنا يروي هذه الأبيات؟ فقام رجل من قيس فقال: أنا أرويها يا أمير المؤمنين. فقال: أنشدني. فأنشده حتى أتى عليها ... فزاد معاوية في عطائه.

وخاصم رجل إلى معاوية في ابن أخيه، فجعل الرجل يحج خصمه، فقال معاوية: أنت كما قال أبو دواد٣:


١ البيان والتبيين ١: ٣٣٣.
٢ الأغاني ٣: ١٠٠-١٠١. يدحض: يزل ويزلق.
٣ الزمخشري، الفائق ١: ٢٤٠. الحرباء مذكر، والأنثى حرباءة التنضية: شجرة ضخمة تقطع منها الأعمدة للأخبية. وصف ظعنًا سائق مجد، فتعجب كيف أتيح لها هذا السائق المجد الحازم. وهذا مثل يضرب للرجل الحازم؛ لأن الحرباء لا يفارق الغصن الأول حتى يثبت على الغصن الآخر.

<<  <   >  >>