من ذلك كله فتح الرومان الطريق التجاري البحري خلال البحر الأحمر في نحو القرن الأول الميلادي. وكان من أثر هذا أن تصاءلت تجارة القوافل البرية في الجنوب، وكانت هذه التجارة عماد الممالك العربية الجنوبية. وزادت المشكلات السياسية هذه العوامل قوة: ففي الشمال قضى الرومان على بترا سنة ١٠٦م بقيادة تراجان، ثم قضوا على تدمر سنة ٢٧٢م بقيادة أورليان، وقد كان الأنباط مستودع تجارة القوافل الشمالية. ولم تنتعش الممالك العربية بعد هذا الاضطراب السياسي والاقتصادي، فانتشرت الهجرة وترك الناس المدن التي كانت عظيمة فزالت. ويعقب فارمر H.G. Farmer على هذا بقوله١: "ومع ذلك كله فإن الجزيرة العربية لم تُصَب بالعقم، فمن هذه البلاد التي كانت مهد الساميين ولدت الحضارة الإسلامية التي صارت بحق خير خلف لحضارة الساميين العظيمة في القدم".
ونحن نرى أن هذا العصر الجاهلي الأخير الذي توسط بين الحضارتين: العربية القديمة والإسلامية الناشئة، لم يكن فجوة عميقة واسعة بحيث تقطع الأواصر بين الحضارتين. فقد كان العرب في هذه الجاهلية الأخيرة يعرفون عن ماضيهم قبسات أوصلها إلينا المؤرخون الإسلاميون غائمة غامضة تشوبها الأساطير والخرافات.
وهذا القرآن الكريم في خطابه لعرب الجاهلية الأخيرة حافل بالإشارات التي تدل على ما كان يرفل فيه أولئك الأقوام ودولهم في الجاهلية الأولى من نعيم وترف، وما كانوا يتمتعون به من قوة ومنعة. وفيه أيضًا تأنيب لعرب الجاهلية الأخيرة الذين كانوا يسيرون في الأرض فيمرون بآثار منازل هؤلاء الأسلاف الأقدمين، ويعلمون من أمرهم ما يعلمون، ولكنهم مع ذلك لا يتعظون بمصيرهم، ولا يعتبرون بما آلوا إليه. فالقرآن الكريم يصف سبأ بالحياة الزراعية المستقرة الناعمة، وبضربهم في الأرض آمنين، وذلك قوله تعالى:
١ H.G. Farmer, History of Arabian Music, Introduction ١٣