جنوب بلاد العرب شعراء، ومع ذلك فإذا كان ثمة شعراء فلا بد أنهم نظموا بإحدى اللهجات العربية الجنوبية ... ولقد اكتشف حقًّا نقش أو نقشان في شمال بلاد العرب بلغة القرآن، ولكن نقوشًا أخرى كشفت عن ثروة من اللهجات تماثل اللهجات التي وجدت في الجنوب، وهنا أيضًا لا وجود للشعر فيما نعلمه ليومنا هذا ... وحينما صنع العلماء الأقدمون مجموعاتهم كانت لغة القرآن بفضل الإسلام قد صارت اللغة الفصحى في جنوب بلاد العرب، وهذا نفسه جعلها تسود في أجزاء أخرى من شبه الجزيرة. وليس لدينا حتى الآن ما يجعلنا نفترض أنها كانت لغة أدبية في أي مكان قبل القرآن. ولو أننا نبحث في وثائق نثرية فلربما اطمأننا إلى أحد افتراضين: إما أنها تُرجمت، وإما أنها، على الأقل، نُقلت من طور لغوي إلى طور آخر؛ وذلك يشبه، شبهًا ما، التغير في هجاء الكلمة الذي يحدث تدريجيًّا في الآثار المطبوعة، متفقة مع أحدث استعمال، من غير أن يكون ذلك عن سوء قصد. ولكن هذا التغير مستحيل في الشعر إذ أن فيه من الصنعة المعقدة أكثر مما في أي أسلوب آخر معروف".
ثم ينتهي من حديثه هذا بأن يربط بين هذا الدليل والدليل الذي سبقه فيقول١:
"وكما أن وجود الأفكار الإسلامية في الآثار المقطوع بجاهليتها دليل على وضعها وزيفها، فإن استخدام لهجة، جعلها القرآن لغة فصحى، أمر يدعونا إلى أن نشك فيها طويلًا ... ويبدو أن المسلمين الذين جمعوا قصائد من جميع أنحاء شبه الجزيرة بلغة واحدة، كان عملهم هذا متمشيًا مع عملهم في جعل كثير من هؤلاء الشعراء، بل أكثرهم، يعبدون الله ولا يشركون به: إنهم يسحبون على الماضي ظواهر هم أنفسهم يعرفونها ... ".
٣- وأما الدليل الآخر من الأدلة الداخلية فقائم في موضوعات القصائد نفسها، وحديثه عن هذه النقطة يلفُّه الغموض والإبهام، ولعله يريد أن يستنتج منه أن اتفاق القصائد الجاهلية في التطرق لموضوعات واحدة بعينها تتكرر في كل