للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

أبو عبيدة على نقائض جرير والفرزدق ... وكلاهما من قبيلة تميم، فكانا دائمًا يذكران في شعرهما أمجاد أسلافهما. ولو كانت لدينا شروح على أشعار لقبيلة أخرى لكانت معرفتنا بتاريخ هذه القبيلة تعادل في وفرتها وكمالها معلوماتنا عن تميم.

لقد بينا أن الشعر الجاهلي مصدر آخر من مصادر معرفتنا ببلاد العرب في العصور التي سميناها "العصور العربية الوسيطة". ولكن، هل الشعر في ذاته مصدر موثوق به؟ لقد بحث هذه المشكلة علماء كثيرون، وهي مشكلة عسيرة دقيقة وقد بولغ في مسألة وضع الشعر الجاهلي ونحله. وحتى لو كانت بعض قصائده موضوعة، فلا ريب في أن مجموع الرواية الشعرية في جملتها صحيحة أصيلة. ومع ذلك فإن الشعر يعجز عن إعطائنا صورة صادقة كاملة عن بلاد العرب، فإن الشعر العرب لم يصوروا لنا تجارب الحياة عند البدو الرحَّل في واقعها ومجموعها، بل صوروا بعض مظاهرها في مُثُل عليا ونموذج رفيعة. وقد كان المثل الأعلى الذي أعجبوا به وتغنوا به في شعرهم مشابهًا -والقياس مع الفارق- للمثل الأعلى لقصيدتي هومر وللقصيدة الفرنسية Chansons de Geste.

هذا المثل الأعلى هو: الفروسية. ولا يصح أن يتهم الشعر الهومري، ولا تلك القصيدة الفرنسية بأنها عمدت عمدًا إلى تغيير الجو التاريخي للعصرين الميسيني والكاروليني، لكن هذين الشعرين يصوران مظهرًا واحدًا حسب، وكذلك فعل الشعر العربي القديم: لقد أبرز لنا الجانب البطولي في الحياة، وأغفل المظاهر الأخرى التي لا تقل عنه قيمة. ومن هذه المظاهر التي أغفلت: الدين ... ".

وبعد؛

فبحسبنا ما قدمنا من آراء المستشرقين في وضع الشعر الجاهلي ونحله، وفي مدى توثيقهم أو تضعيفهم لروايته. وقد عُنينا بعرض آراء بعض الذين خصوا هذا الموضوع ببحث وافٍ في مقالات خاصة به، وأما أولئك الذين تعرضوا له تعرضًا عابرًا في جمل مقتضبة، في معرض تأريخهم للأدب العربي العام: من مثل جب وبروكلمان وغيرهما فلا حاجة بنا إلى الإشارة إلى آرائهم لشهرتها ودورانها.

<<  <   >  >>