غيرهم ويتوقف. ولسنا بسبيل المفاضلة بين المنهجين، ولكنا لا نملك إلا أن نشير إلى أن مذهب البصريين بما فيه من ميل شديد إلى "التقعيد" و"التقنين" أقرب إلى الطريقة التعليمية ومذهب المعلمين والتلاميذ، أما مذهب الكوفيين فهو أقرب إلى فهم طبيعة اللغة فهمًا صحيحًا، وهو بذلك مذهب العلماء لا المعلمين. ونحب أن نشير إلى أن هذا المنهج الذي اتبعه الكوفيون بعدُ كان موجودًا في البصرة أيضًا مع وجود المذهب الثاني "وكانت هاتان النزعتان في البصرة في أيامها الأولى، فهم يقولون: إن ابن أبي إسحاق الحضرمي وتلميذه عيسى بن عمر كانا أشد ميلًا للقياس، وكان لا يأبهان بالشواذ، وكانا لا يتحرجان من تخطئة العرب؛ وكان أبو عمرو بن العلاء وتلميذه يونس بن حبيب البصريان أيضًا على عكسهما: يعظمان قول العرب ويتحرجان من تخطئتهم، فغلبت النزعة الأولى على من أتى بعدُ من البصريين، وغلبت النزعة الثانية على من أتى بعدُ من الكوفيين ... "١.
والأمر الثاني في اللغة والنحو كالأمر الثاني الذي ذكرناه في الحديث والفقه، وذلك أن اتهام البصريين للكوفيين بوضع الشواذ ونحلها وتضعيفهم إياهم، لم يكن كله لأن الكوفيين كانوا حقًّا يضعون وينحلون، وإنما كان بعضه لهذه العصبية التي قامت بين المدرستين، وكان بعضه لاختلاف المصادر التي كان يأخذ عنها كل فريق، واختلاف المنهجين في استقاء مادة اللغة، فقد كان البصريون يضيقون على حين كان الكوفيون يتوسعون.
فإذا ما انتقلنا إلى الحديث عن الشعر وروايته، وجدنا أن الأمرين اللذين أشرنا إليهما في الحديث والفقه من جانب، وفي اللغة والنحو من جانب آخر قائمان في الشعر أيضًا. فقد اتصف الكوفيون هنا بما اتصفوا به هناك من أنهم أكثر حرية وأكثر جرأة، وأنهم قد توسعوا في الأخذ عن مصادر أسقطها البصريون، ومن هنا كثرت رواية الكوفيين فاتهمهم البصريون بالتزيد والوضع.
١ أحمد أمين، ضحى الإسلام ٢: ٢٩٦، وانظر طبقات فحول الشعراء: ١٥.