إن كانوا في بلد واحد، وكان عند هؤلاء العلماء الآخرين بعض ما لم يكن عنده، أو كان عنده بعض ما لم يكن عندهم، وذلك لاختلاف النسخ المدونة التي بين أيديهم، أو لاختلاف الرواة من الأعراب الذين سمعوهم واعتمدوهم مصدرًا من مصادرهم، أو لاختلاف الشيوخ الذين أخذوا عنهم. فكان من نتيجة ذلك أن كل عالم يعود على ما بين يديه من نسخة لديوان الشاعر الجاهلي بالتصحيح والتحقيق، فيضيف إليها بعض ما وجده عند غيره واطمأن إلى صحته، ويحذف منها بعض ما انتهى إلى أنه نسب إلى ذلك الشاعر خطأ أو نحله عمدًا، ويكتب من كل ذلك نسخته التي اطمأن إليها، ثم يقرأها لتلاميذه أو يقرءونها عليه، فإذا ما انتهوا منها أجاز لهم أو لبعضهم أن يرووها عنه.
ثم يرويها هؤلاء لتلاميذهم بعد أن يجروا فيها بعض ما أجراه شيخهم في نسخته الأولى من تحقيق وتمحيص. ثم جاء علماء الطبقة الثالثة ومن تلاهم من العلماء -بين منتصف القرن الثالث ونهاية القرن الخامس الهجري- فوجدوا بين أيديهم نسخًا متعددة لديوان واحد، رُويت كل نسخة عن واحد من علماء الطبقة الأولى في البصرة أو الكوفة، فصنع هؤلاء العلماء المتأخرون نسخًا جديدة أفرغوا فيها جميع روايات العلماء السابقين، وأشاروا في مواطن كثيرة إلى أن هذه القصيدة من رواية فلان أو فلان، أو أن هذه الأبيات لم يروها فلان، أو أن فلانًا قال إن هذه القصيدة أو تلك الأبيات ليست لهذا الشاعر وتنسب إلى شاعر غيره يسميه.
والثالثة: أن رواية هذه الدواوين التي بين أيدينا -حينما يكون الديوان مسندًا- تنتهي إلى أحد هؤلاء العلماء من رواة الطبقة الأولى أو إلى أحد تلاميذهم، ثم تقف عندهم ولا تتجاوزهم. ومن أجل هذا ذهب كثير من الباحثين إلى أن ثمة فجوة واسعة -تزيد على القرنين- تفصل بين زمن الشعر الجاهلي نفسه وزمن تدوينه، وإلى أن العلماء الرواة الذين دونوا ذلك الشعر بعد تلك الفجوة الزمنية الواسعة لم يجدوا إلا أبياتًا متفرقة أو مقطعات قصيرة،