للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

أشبه ما تكون بالأوصال الممزقة، التقطوها التقاطًا من أفواه بعض الأعراب والرواة، وأن هذا الزمن الطويل الذي انقضى قبل تدون الشعر الجاهلي كفيل وحده بأن يجعلنا نشك في الكثير مما دوِّن منه. ولكننا نحن، بعد هذه الدراسة التي بذلنا فيها الجهد لملء تلك الفجوة نذهب إلى أن هذه الدواوين المسندة إلى العلماء من رواة الطبقة الأولى، والتي لا تتجاوزهم في الإسناد، موصولة الأسباب بالعصر الجاهلية وبالشاعر الجاهلي نفسه، وأن تلك الحقبة -التي بدت لبعض الباحثين فجوة فارغة- تبدو لنا سلسلة ذات حلقات متصلة، لم تنقطع فيها قط حلقة من حلقات المصدرين اللذين وردهما علماء الطبقة الأولى، واستقوا منهما في تدوين دواوين الشعر الجاهلي، وهما: الرواية الشفهية، والمدونات:

سواء أكانت صحائف متفرقة أم دواوين مجموعة. وكل ذلك قد بيناه وفصلنا فيه القول تفصيلًا. أما السبب الذي من أجله وقف إسناد هذه الدواوين عند علماء الطبقة الأولى ولم يتجاوزهم، فقد اشرنا إليه أيضًا في فصل مضى، وهو -في رأينا- أن دراسة الشعر الجاهلي دراسة تقوم على التحقيق والتمحيص والبحث اللغوي والتتبع المستقصي والشرح والنقد، ثم الاقتصار على ذلك اقتصارًا يكاد يكون تخصصًا -هذا الضرب من الدراسة لم يوجد قبل مطلع القرن الثاني أو منتصفه عند علماء الطبقة الأولى. وأما قبل ذلك فقد كانت العناية بالشعر الجاهلي مقصورة على مجرد روايته وجمع بعضه، وكثيرًا ما تكون تلك الرواية وذلك الجمع وسيلة لما كان معروفًا آنئذ من العلوم، فكان يُتخذ الشعر الجاهلي وسيلة للاستشهاد والتمثيل والاحتجاج والزينة؛ ولم يكن من بين علماء القرن الأول الهجري من نصب نفسه لتدريس الشعر الجاهلي والبحث فيه وتحقيقه وتمحيصه؛ ولذلك كان جميع ما خلفه هذا القرن الأول من شعر الجاهلية مرويًّا أو مكتوبًا، عناصر أولية ومواد خامة، تسلمها علماء الطبقة الأولى في القرن الثاني فصاغوا منها الدواوين التي نسبت إليهم ورويت عنهم.

وسنعرض في الصفحات التالية ديوانين من هذه الدواوين الجاهلية التي

<<  <   >  >>