اختيار بعض هذه المختارات -كما رأينا في بعض القصائد الأصمعيات- غير أن الوسيلة الكبرى التي كانت أكثر اتباعًا في اختيار المختارات كانت الرجوع إلى دواوين الشعراء وكتب الشعر التي كانت متوفرة بين يدي علماء القرن الثاني. فأبو تمام "المتوفى في نحو سنة ٢٢٨هـ" يجد أمامه في همذان -في شرق الدولة الإسلامية- خزانة كتب، لا كتابًا أو كتابين، فيطالعها ويشتغل بها ويختار منها قصائد ومقطعات تكفي لأن يؤلف منها خمسة كتب. وإذا كان الباحث في تاريخ الرواية الأدبية وتدوين الشعر يأسى لأن الأخبار التي بين يديه لا تعينه على معرفة تاريخ كتابة هذه الكتب الموجودة في خزانة آل سلمة في همذان، ولا تدله على أكثر من أن هذه الكتب كانت مدونة في آخر القرن الثاني الهجري، فإن مما يخفف أسى هذا الباحث أن بين يديه نصًّا آخر، لا يحتمل الشك ولا التأويل، يشير إلى أن خزائن كتب الشعر ودواوين الشعراء كانت موجودة منذ مطلع القرن الثاني وربما نهاية القرن الأول الهجري، وبذلك استطاع المفضل الضبي أن يترك بين يدي إبراهيم بن عبد الله "في نحو سنة ١٤٥هـ""قمطرين فيهما أشعار وأخبار". وأن يعلِّم إبراهيم على سبعين قصيدة منها يصدر بها المفضل اختياره، ثم يتم عليها باقي كتابه حين يدعوه المنصور إلى تأديب ابنه المهدي، ويطلب منه أن يعمد إلى أشعار الشعراء المقلين فيختار لكل شاعر أجود ما قال.
إن هذا المعلم الواضح الذي نصبناه في طريق بحثنا في نهاية القرن الأول الهجري ومطلع القرن الثاني ليكشف لنا عن وجود دواوين الشعراء وكتب الشعر منذ هذا العهد المبكر هذا المعلم الواضح يدعم ما قدمنا الحديث عنه من معالم، استخرجناها من النصوص الكثيرة التي جمعناها في طريق بحثنا لتحدد لنا اتجاهه، ولتبين لنا أن مدونات الشعر الجاهلي قد انتقلت إلى القرن الثاني والطبقة الأولى من الرواة العلماء من القرن الأول الهجري، وأن بعضها ربما كتب منذ صدر الإسلام. وبذلك يكون التدوين: في الصحف المتفرقة وفي الدواوين المجموعة رافدًا كبيرًا يساير الرافد الآخر، وهو الرواية الشفهية، ويعاصره، ولا يقل عنه قيمة؛ وهما معًا يكونان هذا الجدول العظيم الذي نسميه: الرواية الأدبية.