للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

لنكاد نذهب إلى أن جميع ما أورده الجاحظ في كتابيه هذين إنما ينهج فيه هذا النهج.

وإذا كان الجاحظ ومؤلفو كتب الأدب العامة يشتركون مع مؤلفي كتب النحو واللغة والسيرة والتاريخ في هذه الخاصة وهي: إيراد الشعر على أنه دليل أو شاهد، فإن الجاحظ ومع مؤلفو كتب الأدب العامة ينفردون عن مؤلفي الكتب التي ذكرناها بخاصة أخرى، وهي: أنهم لا يرمون من وراء كتبهم التي يؤلفونها في الأدب العام إلى الفائدة العلمية وحدها، ولا يقتصرون فيها على التعليم والتثقيف وحدهما، أو قل إنهم لا ينهجون فيما ينقلون من العلم نهج الأسلوب العلمي الجاف الذي يرمي إلى القارئ بالقول من أقرب السبل، وإنما ينهجون في ذلك نهج الأسلوب الأدبي، ويلجئون إلى الاستطراد والتنويع والتنقل من باب إلى باب، ومن موضوع إلى موضوع، ثم يعودون إلى ما بدءوا به، ولا يكادون يمضون فيه قليلًا حتى يتجاوزوه إلى حديث آخر. فهم بذلك يجمعون بين التعليم والتسلية، وبين التثقيف والإمتاع. ومن كان هذا شأنه لا يعنيه أن يقف عند موضوع بعينه وقفة طويلة يستغرق فيها جميع أطرافه، وليس من شأنه أن يأخذ نفسه ويأخذ القارئ بالتحقيق والتمحيص. ومن أجل هذا نرى الجاحظ حريصًا على أن يوضح طريقته هذه توضيحًا لا لبس فيه فيقول١: "وقد ذكرنا من مقطعات الكلام وقصار الأحاديث بقدر ما أسقطنا به مئونة الخطب الطوال. وسنذكر من الخطب المسندة إلى أربابها مقدارًا لا يستفرغ مجهود من قرأها، ثم نعود بعد ذلك إلى ما قصر منها وخف". ويقول أيضا٢: "هذا -أبقاك الله- الجزء الثالث من القول في البيان والتبيين، وما شابه ذلك من غرر الأحاديث، وشاكله من عيون الخطب، ومن الفقر المستحسنة والنتف المستخرجة، والمقطعات المتخيرة، وبعض


١ البيان والتبيين ٢: ١١٧.
٢ المصدر السابق ٣: ٥.

<<  <   >  >>