للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

قد تفيد، فيما نرى، شكه في ذاكرته وحفظه، فقد ذكرنا قبل قليل أن الجاحظ لا يكاد يرجع إلى ما بين يديه من كتب ومصادر، وإنما يكتب أو يُملي ما يرد في خاطره وما يحضر في ذاكرته، فلعله أيضًا في هذه المواطن يقصد بهذه العبارة المتكررة أنه إنما يكتب من ذاكرته، ولذلك فهو يشك في حفظه لنسبة الشعر الذي يورده، فإن كان ذلك كذلك، يكن هذا دليلًا جديدًا على ما نذهب إليه من أن الجاحظ إنما يورد الشعر وسيلة لا غاية، وأنه لا يتكلف مشقة تحقيقه وتمحيصه والتثبت من نسبته وصحته.

ومن الأدلة على هذا الذي نذهب إليه ما ورد في الكتابين: الحيوان، والبيان والتبيين، من أخطاء في نسبة الشعر. وهي أخطاء لا يصح أن تقع إلا من السرعة أو الاعتماد على الحافظة لأنها في أغلبها نتيجة لتشابه في الأسماء، فمن ذلك أن الجاحظ ينسب في الحيوان شعرًا لخفاف بن ندبة١، وينسبه في البيان والتبيين للبرجمي٢، والصواب أن هذا الشعر لخفاف بن عبد قيس البرجمي٣. ومن ذلك أيضًا أنه ينسب بيتين في البيان والتبيين لحميد بن ثور الهلالي، والصواب أنهما لحميد الأرقط٤، ونسب في الحيوان لخفاف بن ندبة البيت التالي٥:

أبا خراشة إما كنت ذا نفر ... فإن قومي لم تأكلهم الضبع

وأبو خراشة هي كنية خفاف بن ندبة، فليس هو إذن صاحب هذا البيت وإنما هو المخاطب به، وقائله العباس بن مرداس السلمي.

ودليل آخر على ما نذهب إليه هو هذا الاختلاف في نسبة الشعر بين الحيوان والبيان والتبيين فمن أمثلة ذلك أن شعرًا نسب في الحيوان إلى أبي ذؤيب الهذلي٦، ولكنه نسب في البيان والتبيين إلى المتنخل الهذلي٧، ونسب


١ الحيوان ١: ١٣٣.
٢ البيان والتبيين ٢: ١١.
٣ المصدر السابق، هامش: ٦.
٤ المصدر السابق ١: ٦.
٥ الحيوان ٥: ٢٤، وهامش: ٣.
٦ الحيوان ٥: ٢٨٥.
٧ البيان والتبيين: ١: ١٧.

<<  <   >  >>