الآن بانت القصيدة سليمة سلمت من الغلط التعبيري الكامن في فصل ما لا ينفصل والبدء بساكن، وسلمت من الغلط الوزني الكامن في الانتقال من الهزج إلى الرمل إلى الرجز١ فليقارن القارئ بين هذا الكلام المعقول الجاري على بحر واحد، وبين ذلك الكلام نفسه وقد أساء الشاعر توزيعه فكأنه لا يعرف الوزن ولا يحمل عنه فكرة.
وإننا لنتساءل الآن: لم ترى كان ذلك؟ لماذا يهين شاعر ما شعره بهذا الشكل، وإذا لم يكن لديه داعٍ أدبي معقول، مثل ضرورة الوزن، فلأي سبب يمزق قواعد اللغة العربية على هذه الصورة؟ وأي ذوق عربي سليم يحتمل من الشاعر -مهما ورطته دروب الوزن- أن يأتي بمضاف في آخر الشطر، وبمضاف إليه في أول الشطر التالي؟ إن هذا، في الواقع، لا يعدو أن يكون عبثًا لا غاية له، ولا ينبغي للناقد أن يسكت عليه. إن للفوضى والقبح حدودًا.
وإنما كان هذا وأمثاله جانبًا من الأسباب التي جعلت الجمهور العربي يقف موقف النفور من الشعر الحر، فليت الشاعر الناشئ يلتفت ويكف عن عبثه هذا الذي كثرت أمثلته في شعره.
١ أي قارئ ملم بالعروض يدرك أن الرمل والهزج والرجز تنتمي كلها إلى دائرة عروضية واحدة هي دائرة "المجتلب". على أن العرب لم تمزج بينها قط. وإنما وقع المزج بين الهزج والرمل في "البند" بشروط عروضية تقيده وتسيطر عليه. وقد شرحنا ذلك بتفصيل في الفصل الذي درسنا فيه "البند" في موضع آخر من الكتاب.