ولست أظنني أبالغ حين أحكم بأن هذه المحاولة تكاد تكون تحقيرًا للذهن الإنساني الذي يحب بطبعه تصنيف الأشياء وترتيبها. فإذا أطلقنا اسمًا واحدًا على شيئين مختلفين تمام الاختلاف فما وظيفة الذهن الإنساني؟ وإذن فلماذا لا نرتد إلى فترات الجاهلية اللغوية، يوم لم تكن هناك أسماء للأصناف؟ وإنما التصنيف وتسمية الأصناف نتاج الحياة الفكرية للأمم، كلما كانت الأمة أعرق في الفكر والحضارة، كانت تفاصيل التسميات أكثر وأدق. وعلى هذا لا تكون تسمية النثر شعرًا أكثر من نكسة فكرية وحضارية يرجع بها الفكر العربي إلى الوراء قرونًا كثيرة.
ولا يقف الأمر عند هذا الحد وحسب، وإنما نجد له جذورًا تمس الجانب الاجتماعي للغة. فلعلنا نستطيع أن نلاحظ كلنا أن تسميتنا للنثر "شعرًا" هي، في حقيقة الأمر، كذبة لها كل ما للكذب من زيف وشناعة، وعليها، أن تجابه كل ما يجابهه الكذب من نتائج. والكذبة اللغوية لا تختلف عن الكذبة الأخلاقية إلا في المظهر، إن كل كذبة سائرة إلى أن تنكشف أمام عيون الطبيعة الصادقة التي لا تنطق إلا بالحق وبالاستقامة، واللغة الإنسانية، كل لغة، هي الصدق في أنقى معانيه وأسماها. إنها واقعية لأنها تسمي الأشياء بأسمائها الحقة، فلا تخون ولا تكذب ولا تزيف، وهكذا نجد الكرسي يسمي كرسيًّا لأن هذا الاسم يعطينا صفته في الأحوال كلها ولا يكذبنا قط. والنثر يسمى في اللغة نثرًا لأن اسمه هذا يعطينا صفة النثر، كما أن الشعر يسمى شعرًا ليعطينا صفة الشعر، وهذا الصدق المطلق في اللغة يكسبها ثقتنا وإجلالنا، وهو أيضًا يحمينا نحن الذين نتكلم هذه اللغة من أن نكذب، فنحن نشدها إلينا ونلوذ بصدقها في ساعات الضيق. فإذا هوجم شاعر بأنه يكتب نثرًا لا شعرًا، وجد أمامه هذه اللغة الصادقة ذات التعابير المحددة الصريحة المستعدة لحمايته فيلوذ بها ويقول لمن يتهمه إن إنتاجه شعر لا نثر. وهو في هذه الحالة يستعمل رصيد "الشعرية" الذي تملكه لفظة "شعر" في أذهان الناس. وهم