شعرًا، فلا شعر من دونه مهما حشد الشاعر من صور وعواطف، لا بل إن الصور والعواطف لا تصبح شعرية، بالمعنى الحق، إلا إذا لمستها أصابع الموسيقى، ونبض في عروقها الوزن.
هذا مجمل رأينا، والواضح أن أنصار "قصيدة النثر" يخالفوننا فيه. وإنما الوزن، في عرفهم، مجرد شكل خارجي عارض اصطلح الأقدمون عليه، فلو حذفناه وكتبنا الشعر من دونه لأنقذنا شعرنا من التقليد وجئنا بشيء طريف.
وإننا لنحب أن نسألهم، على ذلك، سؤالًا لعل له عندهم جوابًا: ترى إذا استطاع ناثر وشاعر أن يعبرا، كلٌّ بأسلوبه الشخصي، عن عين الكمية من الصور والعواطف والأخيلة، فأيهما سيهز السامعين هزًا أشد؟ أيهما سيبعث فيهم مقدارًا من النشوة أكبر، وإلى أيهما سيستجيب الذوق الإنساني استجابة أرهف وأحر؟ أما في رأينا فإن الجواب واضح وبديهي. إن الموزون الطافح بالصور والأخيلة والعواطف سيملك قلوبنا ويهزنا ويثيرنا أكثر من النثري الطافح بنفس المقدار من الجزئيات. وذلك لأن عنصرًا جماليًّا جديدًا قد أضيف إليه هو الموسيقى والإيقاع.
والسبب المنطقي في فضيلة الوزن، هو أنه، بطبعه، يزيد الصور حدة، ويعمق المشاعر ويلهب الأخيلة. لا بل إنه يعطي الشاعر نفسه، خلال عملية النظم نشوة تجعله يتدفق بالصور الحارة والتعابير المبتكرة الملهمة. إن الوزن هزة كالسحر تسري في مقاطع العبارات وتكهربها بتيار خفي من الموسيقى الملهمة. وهو لا يعطي الشعر الإيقاع وحسب وإنما يجعل كل نبرة فيه أعمق وأكثر إثارة وفتنة. ولذلك كان الشعر مؤثرًا بحيث كان القدماء يعدونه ضربًا من السحر يسيطر به الشاعر على الجماهير. وقديمًا كان الشعر قرين أصحاب الرؤى والكهان وحتى الأنبياء إلى درجة جعلت القرآن الكريم يبرئ الرسول في الآية {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} .