للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

فأية حركة ملموسة في هذا التكرار الذي يضع أمامنا شريطًا يتحرك ببطء وتتعاقب في الأعوام كما تتلاشى أشرعة السفن.

وهذا بيت آخر لبدر شاكر السياب يعبر عن حركة مماثلة تزخر بها الكلمات إلى درجة أخاذة:

ودم يغمغم وهو يقطر ثم يقطر

"مات مات"١:

وليس في إمكان قارئ هذا البيت إلا أن يقف معجبًا بهذا التوازن الهندسي بين "يقطر ثم يقطر" و"مات مات" فكأن كل قطرة من الدم تغمغم "مات مات". والواقع أن الفعل "غمغم" نفسه يحتوي في داخله على تكرار لحرفي الغين والميم. وذلك لا ريب جزء غير واعٍ من البناء الهندسي المحكم للبيت. إنه مثال جيد لتكرار ناجح، فلو حذفنا منه التكرار لأسأنا إلى البيت وقضينا على هذه التعبيرية العالية فيه.

هذا إذن هو التكرار الذي يصور "حركة". ومن معاني التكرار البياني: "التردد" ومن أطرف نماذجه بيت لنزار قباني من قصيدة "الفراء الأبيض" يخاطب به قطة:

يا ... يا مزاحمة الذئاب ... أرى

في ناظريك طلائع الغزو٢

إن تكرار حرف النداء "يا" هنا يكاد يكون نكتة لطيفة تعمدها الشاعر فكأنه يريد أن يكون خطابه للقطة مهذبًا مجاملًا، ولذلك يترفق بها قبل أن يناديها "يا مزاحمة الذئاب" فيبدأ بحرف النداء ثم يتردد لحظة متهيبًا، مستجمعًا شجاعته. وهذا نموذج ثانٍ لهذا الصنف:


١ المصدر السابق ص١٣
٢ الفراء الأبيض، قصيدة لنزار قباني، مجلة الأديب فبراير ١٩٥٢.

<<  <   >  >>