قوة اهتمامي بالشعر العربي. وذلك طبيعي منتظر، فلا كتب العروض تشير إلى البند، ولا كتب الأدب المتداولة، ولا مدرسو الأدب يذكرونه في صفوفهم. ثم إن كبار الشعراء في عصور الأدب العربي الزاهرة لم يمارسوا نظمه، وإنما اقتصر على استعماله شعراء العراق المتأخرون، وكان أشبه ما يكون بأسلوب عامي للمراسلات الإخوانية الظريفة. نقول ذلك كله لا لننتقص من قيمة البند الجمالية، وإنما لنبين أن الشعر الحر لم يتحدر منه من جهة، وإن وجوده لم يساعد الجمهور العربي على تقبل حركة الشعر الحر حين قيامها من جهة أخرى. وليست العبرة بوجود نمط من أنماط الشعر، وإنما العبرة في معرفة الجمهور والشعراء له بحيث يؤثر في اتجاهاتهم.
ولعل أبرز الأدلة على أن الحركة كانت وليدة عصرنا هذا أن أغلبية قرائنا ما زالوا يستنكرونها ويرفضونها، وبينهم كثرة لا يستهان بها تظن أن الشعر الحر لا يملك من الشعرية إلا الاسم فهو نثر عادي لا وزن له.
تلك هي الظروف الخاصة للشعر الحر. ولا يخفى أن الحركة الأدبية التي تنبت فجأة على هذه الصورة تفقد ميزة هامة مما يملكه الأدب الذي يتطور متدرجًا. ذلك أنها لا تملك قواعد تستند إليها، ولا أسسًا تجري وفقها بحيث تأمن الخطأ والزلل. وإنما لا بد لأتباعها، وهم يسندونها ويرفعون صوتها، من مجازفة وتضحية. وأنه لموجع للشاعر المخلص لفنه أن يكتب وهو على علم بأنه يخوض ميدانًا جديدًا قد يقضي على شاعريته، وقد يودي بسمعته الشعرية التي جهد لبنائها وسهر.
ونتيجة لهذه الظروف العامة والخاصة، يسهل أن يسقط المبتدئون من الشعراء في التشابه والتكرار الممل، فينهج الواحد منهم نهج زملائه الآخرين دونما ابتكار، لا عن تقليد واعٍ، وإنما على صورة غير واعية.