للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

يميل إلى التعبير فيستعمل عبارة قصيرة ذات كلمتين أحيانًا. وقد يروق له أن تستوعب عبارة واحدة بيتين أو ثلاثة. وقد يحب أن يقف في نصف الشطر ويبدأ عبارة جديدة تنتهي في نصف الشطر التالي. وكل هذا يعينه على إحداث أثر معين أو إثارة حالة نفسية يقصدها. والحقيقة أن هذا هو ما نصنعه في الحياة أيضًا. فلو أصغينا إلى رجل عامي يقص حكاية لالتفتنا إلى ما يحدثه تنويع الأطوال في عباراته من أثر عميق في المستمعين.

وهذا ما يحرم منه الشاعر الذي يستعمل طريقة الشطرين والقافية الموحدة.

لقد وجد الشاعر الحديث نفسه محتاجًا إلى الانطلاق من هذا الفكر الهندسي الصارم الذي يتدخل حتى في طول عبارته، وليس هذا غريبًا في عصر يبحث عن الحرية ويريد أن يحطم القيود ويعيش ملء مجالاته الفكرية والروحية. الواقع أن إحدى خصائص الفكر المعاصر أنه يكره النسب المتساوية ويضيق بفكرة النموذج ضيقًا شديدًا، فما يكاد يقع على اتساق متعاقب منتظم في جهة من جهات حياته حتى يشتاق إلى أن يحدث فوضى صغيرة في مكان منه فيربك النموذج ويخرج على الرتابة، ولهذا أمثلة كثيرة في مبانينا وبرامجنا وحياتنا. ولم تكن حركة الشعر الحر إلا استجابة لهذا الميل في العصر إلى الخروج على فكرة النموذج المتسق اتساقًا تامًّا. والواقع أن الحياة نفسها لا تسير على نمط واحد ولا تتقيد بنسبة ثابتة في أحداثها، وإنما تجري بلا قيد، لا بل إن اللغة وهي منبع كل فكر وكل شعر، لا تتبع نماذج. إننا نتكلم بحسب الحاجة فنطيل عباراتنا ونقصره وفق المعنى لا وفق نظام هندسي مفروض. ولذلك ثار الشاعر المعاصر على أسلوب الشطرين وخرج إلى أسلوب التفعيلة وبات يقف حيث يشاء المعنى والتعبير.

٤- الهرب من التناظر:

في طفولتنا كانت البيوت التي يعيش فيها الناس ببغداد بيوتًا شرقية في بنائها، تتوسطها ساحة واسعة قد تكون فيها حديقة صغيرة يطلقون عليها

<<  <   >  >>