للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

ذلك الدين المختلط بعلم البشر الذي فيه الحق والباطل والخالص والزائف - هزيمة منكرة، وسقط رجال الدين سقوطاً لم ينهضوا بعده، وشر من ذلك كله وأشأم أن أوربا أصبحت لا دينية.

ولم يكتف رجال الدين بما أدخلوه في كتبهم المقدسة، بل قدسوا كل ما تناقلته الألسن واشتهر بين الناس وذكره بعض شراح التوراة والإنجيل ومفسريها من معلومات جغرافية وتاريخية وطبيعية، وصبغوها صبغة دينية وعدوها من تعاليم الدين وأصوله التي يجب الاعتقاد بها ونبذ كل ما يعارضها، وألفوا في ذلك كتباً وتآليف، وسموا هذه الجغرافية التي ما أنزل الله بها من سلطان الجغرافية المسيحية (Christian Topography) وعضوا عليها بالنواجذ وكفروا كل من لم يدن بها.

اضطهاد الكنيسة للعلم:

وكان ذلك في عصر انفجر فيه بركان العقلية في أوربا، وحطم علماء الطبيعة والعلوم سلاسل التقليد الديني فزيفوا هذه النظريات الجغرافية التي اشتملت عليها هذه الكتب وانتقدوها في صرامة وصراحة، واعتذروا عن عدم اعتقادها والإيمان بها بالغيب، وأعلنوا اكتشافاتهم العلمية واختباراتهم، فقامت قيامة الكنيسة، وقام رجالها المتصرفون بزمام الأمور في أوربا وكفروهم واستحلوا دماءهم وأموالهم في سبيل الدين المسيحي، وأنشأوا محاكم التفتيش التي تعاقب - كما يقول البابا - أولئك الملحدين والزنادقة الذين هم منتشرون في المدن وفي البيوت والأسراب والغابات والمغارات والحقول، فجدت واجتهدت وسهرت على عملها، واجتهدت أن لا تدع في العالم النصراني عرقاً نابضاً ضد الكنيسة، وانبثت عيونها في طول البلاد وعرضها، وأحصت على الناس الأنفاس، وناقشت عليهم الخواطر حتى يقول عالم نصراني: ((لا يمكن لرجل أن يكون مسيحياً ويموت حتف أنفه)) ، ويقدر أن من عاقبت هذه المحاكم يبلغ عددهم ثلثمائة ألف، أحرق منهم اثنان وثلاثون ألفاً أحياء كان منهم العالم الطبيعي المعروف برونو، نقمت منه الكنيسة آراء من أشدها قوله بتعدد العوالم، وحكمت عليه بالقتل، واقترحت بأن لا تراق قطرة من دمه، وكان ذلك يعني أن يحرق حياً، وكذلك كان.

وهكذا عواقب العالم الطبيعي الشهير غاليليو (Galilio) بالقتل لأنه كان يعتقد بدوران الأرض حول الشمس.

<<  <   >  >>