بوجود الإنسان في غير منطقتها فلا تحترمه ولا تعرفه، واتخذت نفسها إلها تدين له بكل ما يدين به العباد المخلصون من عبادة وتقديس وأضاح هي دماء الآخرين ونفوسهم وأموالهم وبلادهم، وقتال في سبيله، وتفان في طاعته، ومحيا وممات لأجله، وهذا الدين القومي يشتمل على شيئين: إيجابي وسلبي، أما الإيجابي فهو الاعتقاد بأن الشعب أو الأمة فوق كل شيء، وأفضل من كل شيء، وأن الله - إذا كانت الأمة تعترف به وتعتقد أو ترى أن من المصلحة أن تستعمل هذه الكلمة - لم يخلق أفضل من هذه الأمة، ولا أنجب منها، ولا أذكى ولا أقوى ولا أحق بالحكم والسيادة والولاية على الأمم، والرعاية للعالم منها، وأنها أمينة ووكيله ووصيه في الأرض، ولم يخلق بلاداً أحب إليه من هذه البلاد، ولا تربة أذكى من تربتها، وهذا هو الدين القومي الذي لا يسمح لإنسان أن يعيش في بلاده حتى يؤمن به.
ولا تختلف شعوب أوربا الحاضرة ودولها في هذه الديانة القومية إلا في الصراحة والنفاق، وأن بعضها تقول وتفعل، وبعضها تفعل ولا تقول، فإن بذرة القومية والوطنية إذا ألقيت في أرض فإنها لا تلبث أن تنشأ وتمد عروقها في الأرض ثم تصير شجرة، فدوحة تظلل الأمة، ولا يمكن لشعب أن يؤمن بالقومية، ثم لا يعتدي ولا يتطاول أو لا يريد أن يعتدي ويتطاول ولا يمقت الآخرين، ولا يزدريهم، كما لا يمكن أن يسرف الإنسان في الخمر، ثم لا يسكر ولا يهذي كما قال الشاعر:
ألقاه في البحر مكتوفاً وقال له *** إياك إياك أن تبتل بالماء
خصوصاً إذا كان العلم والأدب والشعر والفلسفة والتاريخ وحتى العلوم الطبيعية متعاونة على إنشاء العاطفة القومية والنعرة الشعبية والخيلاء الجنسية والفخر بالآباء والتعظيم بالماضي، ولا يكون رادع من خلق ولا وازع من دين، وتولى القيادة رجال لا يعرفون غير القومية والمجد القومي غاية مرمى، ومن مقومات هذه الحياة القومية التي لا تقوم بغيرها، الكراهة
والخوف، وذلك هو الجزء السلبي في دين القومية، فإن الحماسة القومية لا تظهر ولا تبقى حتى يكون للشعب ما يكرهه ويخافه، فلا يزال القائدون يثيرون الكامن من عواطفه، ويذكرون الخامد من حميته ويضربون على الوتر الحساس وهو الكراهة والخوف، فلولاهما لانقشعت سحابة القومية وتراجع سيلها.