ويجرعان المرائر ويصبران على الغصص في سبيل الأولاد ونبوغهم، وقد تواضع على ذلك أهل البيوتات والشرف حتى أهل الطبقات الوضيعة، ويعدون من خالف ذلك رجلاً نذلاً لئيما، والذي روي عن هارون الرشيد في تنبيهه لولديه الأمين والمأمون ووصيته لهما بخدمة الكسائي معروف في التاريخ؛ ومن غرائب ما يروى في هذا الباب ويمثل الطبيعة الشرقية أن ((تاج الدين ألدز)) أمير الأفغان بعد السلطان شهاب الدين الغوري أسلم ولده إلى معلم وضرب المعلم الولد حتى مات، فلما علم بذلك ((تاج الدين)) أشار على المعلم بأن يهرب وقال: ((لا آمن عليك من أم الولد فعسى أن ينالك منها مكروه)) .
وكانت الرابطة بين الصغير والكبير في المجتمع الإسلامي مؤسسة على تعاليم الشرع ((من لم يرحم صغيرنا ولم يوقر كبيرنا فليس منا)) .
ومن خصائص الحضارة الشرقية الاطراد في الحياة والمحافظة على لون واحد والتظاهر بمظهر واحد، فكان الرجل إذا شرع في أمر وتظاهر بمظهر واصله إلى غايته، وإذا اتخذ عادة
أو شارة في اللباس أو عامل أحداً نوع معاملة واظب عليه إلى آخر أنفاسه، لا تؤثر في ذلك الحوادث ولا تغيره الفصول ولا انحراف الصحة ولا الكسل ولا المصالح.
ولم يكن العمدة في حياة الأسرة والقبائل ولم يكن الميزان في التوقير والشرف هو كثرة المال فيختلف المستوى المالي في أسرة اختلافاً كبيراً، ويتفاوت الرجال في قبيلة أو قوم تفاوتاً عظيماً في المال والجاه، فهذا سريٌ مثر وذلك فقير معدم، ولم يكن يستطيع أحد أن يفرق بينهم ويرفع بعضهم فوق بعض لأجل التفاوت الاقتصادي في مجتمعات الأسر والبيوتات والمآتم (بمعناها اللغوي) فإذا شم أحد رائحة الفرق أو نظرة الازدراء، ثار كالليث، أو إذا بدرت بادرة من المضيف تنم عن هذا الفصل انسحبت الأسرة كلها من الضيافة وقاطعوا أهل الضيافة، وكانوا يداً واحدة مع أخيهم المهضوم.
وكان الفقير الصعلوك في قبيلة يواجه الأغنياء والملوك من تلك القبيلة بجرأة وهو معتز بنفسه معتد بشرفه لا يرى في نفسه نقيصة لأجل فقر، وكان الغني أو الملك يكرمه ويحله المحل اللائق بشرفه ونسبه وفضيلته الذاتية، بصرف النظر عن رثاثة هيئته وتبذله، والأزمة الاقتصادية الطارئة على كرم عنصره وصفاء معدنه