وكان هذا الفرد هو الذي تدور لأجله عجلة الحياة، فلأجله يتعب الفلاح ويشتغل التاجر ويجتهد الصانع، ويؤلف المؤلف وينظم الشاعر، ولأجله تلد الأمهات، وفي سبيله يموت الرجال وتقاتل الجيوش، بل ولأجله تلفظ الأرض خزائنها ويقذف البحر نفائسه وتستخرج كنوز الأرض خيراتها.
وكانت الأمة - وهي صاحبة الإنتاج وصاحبة الفضل في هذه الرفاهية كلها- تعيش عيش الصعاليك، أو الأرقاء المماليك، وقد تسعد بفتات مائدة الملك وبما يفضل عن حاشيته فتشكر، وقد تُحرم ذلك أيضاً فتصبر، وقد تموت فيها الإنسانية فلا تنكر شيئاً بل تتسابق في التزلف وانتهاز الفرص.
هذا هو العهد الذي ازدهر في الشرق طويلاً وترك رواسب في حياة هذه الأمة ونفوسها وفي أدبها وشعرها، وأخلاقها واجتماعاتها، وخلّف آثاراً باقية في المكتبة العربية، ومن هذه الآثار الناطقة كتاب ((ألف ليلة وليلة)) الذي يصور ذلك العهد تصويراً بارعاً، يوم كان الخليفة في بغداد أو الملك في دمشق أو القاهرة، هو كل شيء، وبطل رواية الحياة ومركز الدائرة إن هذا العهد الذي يمثله كتاب ((ألف ليلة وليلة)) بأساطيره وقصصه، وكتاب الأغاني بتاريخه وأدبه، لم يكن عهداً إسلامياً، ولا عهداً طبيعياً معقولاً، فلا يرضاه الإسلام ولا يقرّه العقل، بل إنما جاء الإسلام بهدمه والقضاء عليه، فقد كان هذا هو العهد الذي بعث فيه محمد صلى الله عليه وسلم فسماه الجاهلية ونعى عليه وأنكر على ملوكه - ككسرى وقيصر - وعلى أثرتهم وترفهم أشد الإنكار.
إن هذا العهد غير قابل للبقاء والاستمرار في أي مكان وفي أي زمان ولا سبيل إليه إلا إذا كانت الأمة مغلوبة على أمرها أم مصابة في عقلها أو فاقد الوعي والشعور أو ميتة النفس والروح.
إن هذا الوضع لا يقره عقل، ومن الذي يسوّغ أن يتخم فرد أو بضعة أفراد بأنواع الطعام والشراب ويموت آلاف جوعاً ومسبغة، ومن الذي يسوغ أن يعبث ملك أو أبناء ملك بالمال عيث المجانين، والناس لا يجدون من القوت ما يقيم صلبهم ومن الكسوة ما يستر جسمهم، ومن الذي يسوغ أن يكون حظ طبقة - وهي الكثرة - الإنتاج وحده والكدح في الحياة والعمل المضني الذي لا نهاية له، وحظ