كان الناس- عرباً وعجماً- يعيشون حياة جاهلية، يسجلون فيها لكل ما خلق لأجلهم ويخضع لإرادتهم وتصرفهم، لا يثيب الطائع بجائزة ولا يعذب العاصي بعقوبة ولا يأمر ولا ينهى، فكانت الديانة سطحية طافية في حياتهم، ليس لها سلطان على أرواحهم ونفوسهم وقلوبهم، ولا تأثير لها في أخلاقهم واجتماعهم. كانوا يؤمنون بالله كصانع أتم عمله واعتزل وتنازل عن مملكته لا ناس خلع عليهم خلعة الربوبية. فأخذوا بأيديهم أزمّة الأمر وتولوا إدارة المملكة وتدبير شئونها وتوزيع أرزاقها، إلى غير ذلك من مصالح الحكومة المنظمة، فكان إيمانهم بالله لا يزيد على معرفة تاريخية، وكان إيمانهم بالله وإحالتهم خلق السموات والأرض إلى الله لا يختلف عن جواب تلميذ من تلاميذ فن التاريخ يقال له: من بنى هذا القصر العتيق؟ فيسمى ملكاً من الملوك الأقدمين من غير أن يخافه يخضع له، فكان دينهم عارياً عن الخشوع لله ودعائه، وما كانوا يعرفون عن الله ما يحببه إليهم، فكانت معرفتهم مهمة غامضة، قاصرة مجملة، لا تبعث في نفوسهم هيبة ولا محبة.
وهذه الفلسفة اليونانية قد عرفت بواجب الوجود في سلوب، ليست فيها صفة مثبتة من صفات القدرة والربوبية والإعطاء المنع والرحمة، ولم تثبت له إلا الخلق الأول، ونفت عنه الاختيار والعلم والإرادة، ونفت الصفات وقرَّرت كليات كلها حط من قدر الخالق وقياس على الخلق، والسلوب إذا اجتمعت لم تفد فائدة إيجاب واحد، ولم نعلم مدينة واحدة ولا
مجتمعاً ولا نظاماً ولا عملاً ولا بناية قامت على مجرد أسلوب، فتجردت الديانة في أوساط الفلسفة الإغريقية عن روح الخشوع والاستكانة لله والالتجاء إليه في الحوادث ومحبته بكل القلب. وهكذا فقدت الديانة السائدة على العالم روحها وأصبحت طقوساً وتقاليد وأشباحاً للإيمان.
انتقل العرب والذين أسلموا من هذه المعرفة العليلة الغامضة الميتة إلى معرفة عميقة واضحة روحية ذات سلطان على الروح والنفس والقلب والجوارح، ذات تأثير في الأخلاق والاجتماع، ذات سيطرة على الحياة وما يتصل بها، آمنوا بالله الذي له الأسماء الحسنى والمثل الأعلى، آمنوا برب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر، الخالق البارئ المصور، العزيز الحكيم، الغفور الودود، الرؤوف الرحيم، له الخلق والأمر، بيده