ملكوت كل شيء، يجير ولا يجار عليه، إلى آخر ما جاء في القرآن من وصفه، يثيب بالجنة ويعذب بالنار، ويبسط الرزق لمن يشاء ويقدر، يعلم الخبء في السماوات والأرض، ويعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، إلى آخر ما جاء في القرآن من قدرته وتصرفه وعلمه، فانقلبت نفسيتهم بهذا الإيمان الواسع العميق الواضح انقلاباً عجيباً، فإذا آمن أحد بالله وشهد أن لا إله إلا الله انقلبت حياته ظهراً لبطن، تغلغل الإيمان في أحشائه وتسرب إلى جميع عروقه ومشاعره، وجرى منه مجرى الروح والدم واقتلع جراثيم الجاهلية وجذورها، وغمر العقل والقلب بفيضانه وجعل منه رجلاً غير الرجل، وظهر منه روائع الإيمان واليقين والصبر والشجاعة ومن خوارق الأفعال والأخلاق ما حير العقل والفلسفة وتاريخ الأخلاق، ولا يزال موضع حيرة ودهشة منه إلى الأبد، وعجز العلم عن تعليله بشيء غير الإيمان الكامل العميق.
وخز الضمير:
وكان هذا الإيمان مدرسة خلقية وتربية نفسية تملي على صاحبها الفضائل الخلقية من صرامة إرادة وقوة نفس ومحاسبتها والإنصاف منها، وكان أقوى وازع عرفه تاريخ الأخلاق وعلم النفس عن الزلات الخلقية والسقطات البشرية، حتى إذا جمحت السورة البهيمية في
حين من الأحيان وسقط الإنسان سقطة، وكان ذلك حيث لا تراقبه عين ولا تتناوله يد القانون تحول هذا الإيمان نفساً لوَّامة عنيفة ووخزاً لاذعاً للضمير وخيالاً مروعاً، لا يرتاح معه صاحبه حتى يعترف بذنبه أمام القانون، ويعرض نفسه للعقوبة الشديدة ويتحملها مطمئناً مرتاحاً تفادياً من سخط الله وعقوبة الآخرة.
وقد حدثنا المؤرخون الثقات في ذلك بطرائف لم يحدث نظيرها إلا في التاريخ الإسلامي الديني فمنها ما روى مسام ابن الحجاج القشيري صاحب الصحيح بسنده عن عبد الله بن بريدة عن أبيه أن ماعز بن مالك الأسلمي، أتى رسول صلى الله عليه وسلم فقال:((يا رسول اله إني ظلمت نفسي وزنيت وإني أريد أن تطهرني)) فرده، فلما كان من الغد أتاه فقال:((يا رسول الله إني قد زنيت)) فرده الثانية، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قومه فقال: أتعلمون بعقله بأساً تنكرون منه شيئاً؟ فقالوا: ما نعلمه إلا وفي العقل من صالحينا فيما نرى فأتاه الثالثة فأرسل إليهم