ثم لا يلبث العالم المتمدن أن يرى من هذه المواد الخام المبعثرة التي استهانت بقيمتها الأمم المعاصرة وسخرت منها البلاد المجاورة، لا يلبث أن يرى منها كتلة لم يشاهد التاريخ البشري أحسن منها اتزاناً، كأنها حلقة مفرغة لا يعرف طرفها أو كالمطر لا يُدرى أأوله خير أم آخره كتلة فيها الكفاية التامة في كل ناحية من نواحي الإنسانية، كتلة هي في غنى عن العالم، وليس العالم في غنى عنها، وضعت مدنيتها وأسست حكومتها وليس لها عهد بها، لم تضطر إلى أن تستعير رجلاً من أمة أو تستعين في إدارتها بحكومة، أسست حكومة تمد رواقها على رقعة متسعة من قارتين عظيمتين، وملأت كل ثغر وسدت كل عوز برجل يجمع بين الكفاية والديانة والقوة والأمانة، تأسست هذه الحكومة المتشعبة الأطراف فأنجدتها هذه الأمة الوليدة التي لم يمض عليها إلا بعض العقود -كله جهاد ودفاع ومقاومة وكفاح - برجل من الرجال الأكفاء، فكان منها الأمير العادل والخازن الأمين والقاضي المقسط، والقائد العابد والوالي المتورع والجندي المتقي، وكانت بفضل التربية الدينية التي لا تزال مستمرة، وبفضل الدعوة الإسلامية التي لا تزال سائرة، مادة لا تنقطع ومعيناً لا ينضب، لا تزال تسند الحكومة برجال يرجحون جانب الهداية على الجباية، ولا يزالون يجمعون بين الصلاح والكفاية، وهنا ظهرت المدنية الإسلامية بمظهرها الصحيح، وتجلت الحياة الدينية بخصائصها التي لم تتوفر لعهد من عهود التاريخ البشري.
لقد وضع محمد صلى الله عليه وسلم مفتاح النبوة على قفل الطبيعة البشرية فانفتح على ما فيها من كنوز وعجائب وقوى ومواهب، أصاب الجاهلية في مقتلها أو صميمها، فأصمى رميته، وأرغم العالم العنيد بحول الله على أن ينحو نحواً جديداً ويفتتح عهداً سعيداً، ذلك هو العهد الإسلامي الذي لا يزال غرة في جبين التاريخ.