جنسها من هذا النقص، لذلك لم تزل المدنية متأرجحة بين مادية بهيمية وروحانية ورهبانية ولم تزل في اضطراب.
يمتاز أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بأنهم كانوا جامعين بين الديانة والأخلاق والقوة والسياسة، وكانت تتمثل فيهم الإنسانية بجميع نواحيها وشعبها ومحاسنها المتفرقة في قادة العالم، وكان يمكن لهم - بفضل تربيتهم الخلقية والروحية السامية واعتدالهم الغريب الذي قلما اتفق للإنسان، وجمعهم بين مصالح الروح والبدن واستعدادهم المادي الكامل وعقلهم الواسع - أن يسيروا بالأمم الإنسانية إلى غايتها المثلى الروحية والخلقية والمادية.
دور الخلافة الراشدة مثل المدنية الصالحة:
وكذلك كان، فلم نعرف دوراً من أدوار التاريخ أكمل وأجمل وأزهر في جميع هذه النواحي من هذا الدور، دور الخلافة الراشدة فقد تعاونت فيه قوة الروح والأخلاق والدين والعلم والأدوات المادية في تنشئة الإنسان الكامل , وفي ظهور المدنية الصالحة. كانت حكومة من أكبر حكومات العالم، وقوة سياسة مادية تفوق كل قوة في عصرها. تسود فيها المثل الخلقية العليا وتحكم معايير الأخلاق الفاضلة في حياة الناس ونظام الحكم. وتزدهر فيها الأخلاق والفضيلة مع التجارة والصناعة. ويساير الرقي الخلقي والروحي اتساع الفتوح واحتفال الحضارة فتقل الجنايات وتندر الجرائم بالنسبة إلى مساحة المملكة وعدد سكانها ورغم دواعيها وأسبابها. وتحسن علاقة الفرد بالفرد والفرد بالجماعة وعلاقة الجماعة بالفرد. وهو دور كمالي لم يحلم الإنسان بأرقى منه ولم يفترض المفترضون أزهى منه. ولم يكن إلا بسيرة الرجال الذين يتولون الحكم ويشرفون على المدنية وبعقيدتهم وتربيتهم وخطتهم في الحكم وسياستهم، فكانوا أصحاب دين وأخلاق عالية أينما كانوا، كانوا أعفة أمناء خاشعين متواضعين، حكاماً كانوا أو رعايا أو شرطة أو جنوداً. يصف شيخ من عظماء الروم جنود المسلمين فيقول: إنهم يقومون الليل ويصومون النهار ويوفون بالعهد ويأمرون
بالمعروف وينهون عن المنكر ويتناصفون بينهم (١) . وقال الآخر: