للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

((هم فرسان بالنهار رهبان بالليل، لا يأكلون في ذمتهم إلا بثمن، ولا يدخلون إلا بسلام، يقضون على من حاربوا حتى يأتوا عليه (١)) . ويقول الثالث: ((أما الليل فرهبان وأما النهار ففرسان، يريشون النبل ويبرونها ويثقفون القنا، لو حدثت جليسك حديثاً ما فهمه عنك لما علا من أصواتهم بالقرآن والذكر (٢)) . ويغنم الجند في المدائن تاج كسرى وبساطه وهو يساوي مئات الألوف من الدنانير فلا تعبث به يد ولا تشح عليه نفس، ثم يسلمونه إلى الأمير ويرسله الأمير إلى خليفة المسلمين فيتعجب ويقول: إن الذين أدوا هذا لأمناء (٣) .

تأثير الإمامة الإسلامية في الحياة العامة:

إن هذا الرعيل من أتباع محمد صلى الله عليه وسلم كان خليقاً بأن يسعد النوع الإنساني في ظله وتحت حكمه، وأن يسير بقيادته سديد الخطى رشيد الغاية مستقيم السير، وأن يعمر ويطمئن العالم في دوره وتخصب الأرض وتأخذ زخرفها، فإنهم كانوا خير القائمين على مصالحها حارسين لها، ولا ينظرون إلى هذه الحياة كقفص من حديد أو غُلٍّ في عنق فيعادونه ويكسرونه، ولا ينظرون إليها كفرصه من لهو ونعيم ومتعة لا تعود أبداً فينتهزونها ويهتبلونها، ولا يضيعون منها ساعة ولا يدخرون من طيباتها، وكذلك لا يعدونها عذاباً وعقوبة بجريمة فيتخلصون منها ولا ينظرون إلى الدنيا كمائدة ممدودة فيتهالكون عليها، إلى ما في الأرض من نعماء وخزائن وخيرات كأنها مال سائب يتقاتلون عليه، وإلى الأمم الضعيفة كفريسة يتسابقون في اقتناصها، بل يعدون هذه الحياة نعمة من الله هي أصل كل خير وسبب كل بر، يتقربون فيها إلى الله ويصلون إلى كمالهم الإنساني الذي قدر لهم، وفرصة من عمل وجهاد لا فرصة بعدها: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} . ويعيدون هذا العالم مملكة لله

استحلفهم فيها -أولاً- من حيث أصل الإنسان الذي جعله خليفة في الأرض {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً} {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ


(١) البداية والنهاية ج ٧ ص ٥٣.
(٢) البداية والنهاية ج ٧ ص ١٦.
(٣) سيرة عمر بن الخطاب لابن الجوزي.

<<  <   >  >>